"ماريو المصري" سقوط في بئر الخيانة

جنّده يهودي سكندري وسلمته فتاة مصرية إلى المشنقة
01:29 صباحا
قراءة 9 دقائق
رفرفت راية حمراء قانية فوق أحد السجون المصرية في صبيحة أحد أيام شهر مايو/أيار من العام ،1970 بينما كان ذلك الشاب الأسمر المشرب بحمرة الخوف، يسير بخطوات مرتعشة بين صفين من الجنود إلى مصيره المحتوم.على بعد خطوات من حبل المشنقة، وقف محمد إبراهيم فهمي الشهير ب ماريو، ينظر للوجوه المتجهمة التي أحاطت به، غير عابئ بالأمر كله، إذ كان يعرف منذ ما يقرب من ثلاث سنوات أنه يسير إلى حتفه لا محالة.في حي محرم بك وسط الإسكندرية نشأ الصبي محمد إبراهيم فهمي لأسرة بسيطة، كانت تعلق عليه آمالاً عريضة في أن يحظى بنصيب وافر من التعليم، قبل أن يدهس الولد الشقي كل هذه الأحلام تحت عجلات الترام القديم، الذي يمر من أمام بيته مثل شيطان مكابر، يدفعه دائما إلى الهرب من المدرسة.لم يجد والد محمد بدًا بعد سنوات قليلة من التحاق ابنه الأصغر بالمدرسة، من أن يلحقه بورشة صغيرة للسيارات على أمل أن يتعلم الصبي الفاشل مهنة يقتات منها، بعد أن تعددت مرات رسوبه، ووجد ضالته في ورشة بالقرب من بيته، يمتلكها إيطالي يدعى الخواجة روبرتو، اشتهر في ذلك الحي السكندري الهادئ بمهارته الفائقة في التعامل مع ميكانيكا السيارات.في ورشة الخواجة روبرتو وجد الصبي محمد إبراهيم نفسه، خاصة بعدما أبدى مهارة كبيرة في تلك المهنة، رغم حداثة عمره، إذ لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة بعد، وهو الأمر الذي دفع صاحب الورشة العجوز، إلى أن يمنحه ثقته الكاملة، حتى إنه أطلق عليه اسماً إيطالياً: ماريو.قضى ماريو في ورشة الخواجة الإيطالي سنوات قبل أن يتزوج من واحدة من بنات الحي، ربطته بها قصة حب خاطفة، ويستقل بنفسه في ورشة خاصة افتتحها بالقرب من شقة الزوجية، التي أثثها بأجمل وأرقى الأثاث، لكن حياته لم تستقر مع زوجته الأولى، فراح يبحث عن أخرى، حتى التقى ب تغريد ذات يوم على شاطئ البحر. كانت فتاة قاهرية تنتمي إلى أسرة ميسورة الحال، لكنها لم تجد مانعاً في الارتباط ب ماريو، حيث كان ما يكسبه من عمله في ورشة الميكانيكا المملوكة له، كافياً لأن تتنازل تغريد عن مشكلة أن تتزوج من ميكانيكي، لكن الثمن الذي دفعه كان باهظاً.اشترطت العروس الجديدة على ماريو أن يشتري لها شقة في ضاحية الدقي في القاهرة، وأن يؤثثها بأفخم الأثاث، واستجاب الشاب السكندري النزق لجميع طلباتها، وراح يقضي معظم أيامه في القاهرة في بيته الجديد تاركاً زوجته الأولى تواجه وحدها مصيرها المحتوم.في القاهرة عرف ماريو طريقه إلى البارات والملاهي الليلية، فراح ينفق ببذخ شديد على بنات الليل، تاركاً أمر الورشة إلى بعض صبيانه، الذين تعلموا على يديه أصول المهنة وأسرارها، لكن علاقته الفارقة بإحدى الراقصات، كانت سبباً في إفلاسه بسرعة شديدة، بعد أن دفعته باحتراف إلى أن يمد يده إلى مدخراته في البنوك المصرية.فوجئ ماريو ذات يوم بالخراب الذي حل على رأسه، حيث نفدت مدخراته وهربت الزبائن من ورشته بعد أن أهملها، وتركها في يد صبيانه الصغار، لذلك لم يتردد كثيراً عندما اقترح عليه البعض أن يعمل في تجارة قطع غيار السيارات المستعملة.في صبيحة أحد أيام شهر يناير/كانون الثاني من العام ،68 غادر ماريو ميناء الإسكندرية على متن مركب إيطالي، متجها إلى نابولي حيث السوق الأوروبي الأكبر لتجارة السيارات الشعبية حينذاك، وفي بنسيون قديم بالحي الشعبي في المدينة الإيطالية الساحرة، كانت البداية مع رحلة السقوط.اعتاد محمد إبراهيم السفر إلى إيطاليا، وبدأت الأموال تتدفق بين يديه من جديد بعد أن حقق أرباحاً طائلة من تجارته، لكن ذلك لم يمنعه من السقوط السريع في يد المخابرات الإسرائيلية كفريسة سهلة، وعن ذلك يقول في إفادته أمام جهات التحقيق: في إحدى سفرياتي إلى إيطاليا وبينما كنت في مطار روما، تقابلت بالصدفة مع صديق إيطالي قديم اسمه ليون لابي، وكان يهودياً يعيش في الإسكندرية قبل أن يهاجر إلى أوروبا، فتبادلنا العناوين وأرقام الهواتف، قبل أن أتلقى منه بعد عدة أيام مكالمة هاتفية، وتواعدنا على اللقاء في مطعم مشهور بمدينة ميلانو.أشفق لابي كثيراً على صديقه ماريو، بعدما شرح له ظروفه وتعثراته المالية، وزواجه من امرأتين، وكان ذلك سبباً مباشراً في أن يطلب منه ماريو المساعدة في تدبير صفقة تجارية كبيرة يجني من ورائها أموالاً طائلة، واستمع لابي جيداً إلى صديقه قبل أن يقف وهو يقول له بثقة: لا تقلق ماريو.. غداً سأجد لك حلاً.بدأ لابي الذي لم يكن سوى عميل رفيع للموساد، ينصب شباكه على ماريو، فألقى في طريقه بفتاة إيطالية ساحرة الجمال، لم تكن في حقيقة الأمر سوى سكرتيرته الحسناء جراتسيللا التي تولت في وقت لاحق ترتيب إقامة ماريو في فندق فخم، بدلاً من ذلك البنسيون الفقير الذي كان يقيم فيه.في الطريق إلى الفندق بدأت الإيطالية الحسناء تلقي بشباكها على ماريو، فراحت تسأله عن أرباحه من تجارة قطع غيار السيارات، وكيف أن باستطاعته أن يربح أضعافها إذا ما تعاون مع لابي، الذي لا يزال يتذكر الإسكندرية وشوارعها ويحن إلى كل شيء فيها.في جناح فخم بالفندق الشهير في المدينة الإيطالية الجميلة، قضى ماريو ساعات من النشوة بصحبة جراتسيللا، التي نجحت في اصطياده بمهارة فتاة محترفة، قبل أن يفاجأ ب لابي أمامه يبتسم، وقبل أن ينطق ماريو بكلمة، كان يدس في يده مظروفاً به خمسمائة دولار، ويسحب الحسناء الإيطالية من فراشه، ثم يخبره بأنه سيمر عليه في اليوم التالي.في العاشرة والنصف من صباح اليوم التالي، غادر ماريو الفندق في طريقه إلى العنوان الذي أخبره به لابي ليفاجأ بوجود شخص آخر يجلس معه في مكتبه، يتحدث العربية بطلاقة، وعرفه لابي عليه: إبراهيم.. أقدم لك صديقي ماريو.. ماريو هذا إبراهيم وهو صديق إسرائيلي، يعمل خبيراً في شعبة مكافحة الشيوعية في البلاد العربية.صافح إبراهيم ماريو بحرارة، وقال له وهو يشد على يديه بقوة إن إسرائيل لا تريد منه شيئاً يضره، لكن المطلوب منه هو أن يمدها بالمعلومات التي تفيدها في التعرف إلى نشاط الشيوعيين في مصر، وانتشارها وخطرها على المنطقة كلها.لم يتردد ماريو في قبول ذلك العرض المغري، خاصة أن لابي أخبره بأن الراتب لن يقل عن خمسمائة دولار شهرياً، وأنه لا يجب أن يرفض مثل هذا العرض، الذي يعد في حقيقته فرصة عظيمة يجب استغلالها، وكانت زينب هي أول ضحية يسعى ماريو لاستغلالها في مهمته الوضيعة.كانت زينب مجرد فتاة بسيطة التقى بها قبل شهور في خان الخليلي، حيث تعمل بائعة في محل للأنتيك، وتوطدت علاقتها بماريو بعدما راح يتردد عليها كثيراً، يشتري منها بعض أنواع البضائع التي يبيعها في إيطاليا، ويعود محملاً منها بقطع غيار السيارات.تذكرت زينب عندما تلقت منه خطاباً، يخبرها فيه بأنه سيكون في انتظارها إذا ما قررت السفر إلى إيطاليا، ذلك اللقاء الذي جمعهما قبل شهور، عندما أخبرته بمدى إمكانية أن تسافر معه إلى إيطاليا، لتشتري سيارة مستعملة، تقوم بتشغيلها كسيارة أجرة في القاهرة، ووعدها ماريو حينذاك بأن يساعدها، قبل أن يختفي فجأة. كانت زينب التي لم تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها، تحلم كثيرا بالسفر خارج مصر للعمل، خاصة أنها لم تكن قد ارتبطت بعد بعلاقة عاطفية من شأنها أن تعوق أحلامها، فحصلت على شهادة الليسانس في اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، لكنها اضطرت بعد التخرج إلى العمل في الخان القريب من بيتها، حتى تتمكن من تدبير مصروفاتها، وتخفيف الحمل الثقيل عن خالها الذي كان يرعاها ووالدتها بعد وفاة أبيها.في مطار روما وقف ماريو ينتظر أول ضحاياه الذين يخطط لتجنيدهم للعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، وعندما هبطت زينب من سلم الطائرة، صدمت من اللغة الإيطالية التي لم تكن تعرف منها حرفاً، لكنها سرت كثيرا عندما وجدت مضيفها يتحدث بها بطلاقة أصحاب البلد.اصطحب ماريو ضيفته إلى فندق رخيص في روما، قبل أن يتركها تستريح قليلاً، وتحرك باتجاه مسكنه ليرتب خطة تجنيدها التي رسمها بدقة شديدة، وكانت الخطة تعتمد على بقائها لأطول فترة ممكنة في إيطاليا، حتى يتمكن من نسج خيوطه حولها.ظل ماريو يصطحب زينب إلى أماكن بيع السيارات المستعملة، بحجة البحث عن سيارة جيدة، لكنه كان في كل مرة يخبرها بأن السعر مرتفع للغاية على خلاف الحقيقة، معتمداً في ذلك على جهلها باللغة الإيطالية.يعد أيام أقنع ماريو ضحيته بشراء سيارة دفعت فيها معظم ما تملكه من مال، في ما تركت الباقي لحساب مصاريف الشحن إلى الإسكندرية، لكن زينب صدمت بعدما تبيّن لها أن فاتورة الفندق قد استنزفت نقودها، وأنها لم تعد تملك مصاريف الشحن، وعندها تأكدت أن ماريو قد خدعها عندما أخبرها أن عملية الشحن لا تتطلب أموالاً طائلة.عجزت زينب عن التصرف خاصة بعدما اختفى ماريو فجأة، حتى إنها اضطرت إلى بيع بعض حليها لتتمكن من سداد فاتورة الإقامة في الفندق، لذلك عندما ظهر ماريو من جديد كان ظهوره بمثابة طوق النجاة لفتاة في بلاد غريبة، لا تعرف لغة أهلها، وورطت في شراء سيارة لا تعرف كيف تدخلها إلى مصر بعد أن نفدت نقودها.اعتذر ماريو عن أيام الغياب المفاجئ، واصطحب زينب إلى مطعم فاخر للعشاء على سبيل الاعتذار، وعندما تحدثت معه بشأن مصاريف الشحن الغالية، أخبرها بأنه سوف يتولى بنفسه مهمة شحن السيارة، قبل أن تفاجأ زينب بأحد الأشخاص يقترب منها في ود ويفتعل طريقة للحوار بالإنجليزية التي تجيدها ببراعة.* عذرا هل أنت تونسية؟ وردت زينب بإنجليزية سليمة: لا سيدي أنا من الجمهورية العربية المتحدة، من القاهرة.كان ذكر اسم القاهرة كفيلاً بأن يسهب ذلك الرجل الغريب في الحديث عن مصر، وجمال عبدالناصر، ذلك الرجل الثوري الذي يحبه كثيراً، ويتمنى لو قابله، قبل أن يرد عليه ماريو:لكنكم في الغرب لا تحبون ناصر.. وقبل أن يردف كانت فاتورة الحساب قد وضعت على طبق أمام ماريو، لكن الرجل الغريب أصر بشدة على أن يدفعها نيابة عنه على سبيل التحية للمصريين.وجه الرجل الغريب الذي لم يكن سوى أحد ضباط الموساد دعوة لزينب لتشاركه العشاء في أحد مطاعم روما الفاخرة، وقبلت الأخيرة مشدوهة بلباقته الشديدة وثرائه، قبل أن تفاجأ به يطلب منها العمل معه.أخبرها ضابط الموساد بأنه رجل أعمال بريطاني، ويرغب في استثمار جزء من أمواله في المنطقة العربية وتحديدا مصر، لكنه يحتاج إلى من يخبره بأمر السوق فيها، وأهم متطلباته، لذلك فهو يرشحها للعمل معه، مشيراً إلى أن مهمتها الرئيسية ستكون إعداد تقرير اقتصادي عن أحوال مصر الاقتصادية، ومشاكل التنمية بها ومعوقات السوق.وافقت زينب على الفور غير مصدقة أن أيام الفقر ولت، وأوصلها الرجل إلى الفندق بعدما منحها ستمائة دولار كمرتب شهرين، ودفع عنها حساب الفندق، قبل أن تفاجأ في اليوم التالي بماريو يسرع هو الآخر بشحن سيارتها إلى مصر.في مقعدها بالطائرة أغمضت زينب عينيها، وجلست تفكر في أمر ماريو، حيث أخبرته بأمر الرجل فأظهر موافقته، ورغم كونه تاجراً إلا أنه لم يطلب منها مصاريف الشحن، رغم علمه بوجود أموال معها، بل إنه ألح عليها كثيراً لتأخذ منه مائة دولار في المطار، وسلمها حقيبة هدايا أنيقة.تشككت زينب في الأمر، وتذكرت إحدى الدورات الإرشادية التي شاركت فيها في أحد مدرجات جامعة القاهرة، قبل سفرها بأيام، وكان المحاضر يشرح أساليب الموساد في اصطياد المصريين في الخارج، ولأن ماريو مصري مثلها، ومجريات الأمور كلها كانت شبه طبيعية، طردت وساوسها التي تضخمت إلى حين وقررت في نفسها أمراً.في مطار القاهرة انتحت زينب بأحد الضباط جانباً، وسألته سؤالاً واحداً، وفي اليوم التالي كانت تستقل سيارة صحبتها إلى مقر جهاز المخابرات المصرية لتكون تلك هي البداية وراء عملية سقوط ماريو، الذي ضبط بعد أسابيع متلبساً وهو يتسلم التقرير الاقتصادي من زينب. أيام ميلانو وقف ماريو في ذلك اليوم أمام صاحب الفندق العجوز يسأله بخفة ظل أهل الاسكندرية: سيدي.. هل زرت مصر من قبل، أظن أنني قد رأيتك في الإسكندرية منذ سنوات.وقبل أن يجيب صاحب البنسيون العجوز، فوجئ ماريو بزوجة العجوز تخرج من خلف جدار خشبي صغير ثم تصيح في وجهه بإيطالية فجة: ماذا تريد أيها المصري من زوجي؟ أتظن أنك فهلوي؟ إذا كان المصري يسرق الكحل من العين، فنحن في نابولي نسرق اللبن من فنجان الشاي.قضى ماريو عدة أيام في نابولي، يتسكع في أسواقها في محاولات دؤوب للتعرف على أماكن بيع قطع غيار السيارات المستعملة، وقد وجد ضالته عندما تأكد بالفعل أن ميلانو تلك المدينة الإيطالية الساحرة، تعد أكبر الأسواق الإيطالية لبيع السيارات القديمة والمستعملة، وأن أثمان السيارات فيها تصل إلى نصف ثمنها في نابولي.ويقول محمد إبراهيم في اعترافاته التي سجلها بخط يده أمام أجهزة التحقيق المصرية في ما بعد إنه قرر وقتها أن يشتري من إيطاليا قطع غيار السيارات، وأن يبيع لها منتجات خان الخليلي التي كانت تباع في ميلانو بأسعار عالية.اشترى ماريو طلباته من قطع غيار ذلك النوع من أنواع السيارات الذي لم يكن متوافراً في السوق المصرية، وعاد إلى الإسكندرية ليقوم ببيع قطع الغيار بأضعاف ثمنها، ويتوجه في ما بعد إلى منطقة خان الخليلي، ليبدأ في شراء كمية من بضائعه الرائجة في إيطاليا.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"