ماكرون.. ومعركة «الجيش الأوروبي»

03:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. عبد المنعم المشاط *

يبدو أن السيل لدى الرئيس الفرنسي ماكرون قد بلغ الزبى، من تصريحات الرئيس دونالد ترامب نحو أوروبا عشية الاحتفال بمرور مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ حيث اجتمع قادة وحكام الكثير من الدول، وخاصة الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الروسي بوتين، للاحتفال بالذكرى في باريس؛ فقد فجر ماكرون قنبلة سياسية واستراتيجية، وذلك بالدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي موحد حقيقي للدفاع عن أوروبا ضد التهديدات الخارجية، التي تتمثل في روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة.
قبل الدخول في تفاصيل دعوة ماكرون، علينا أن نحدد بعض الأسباب التي دفعته إلى هذا الإعلان الذي يعبر عن شعوره بالإحباط بشأن استمرار اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في الدفاع عنها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حينما أنشأت حلف شمال الأطلسي/ الناتو في إبريل 1949 من 12 دولة، إلى أن تمت توسعته عبر السنين ليضم الآن 29 دولة منها 26 دولة أوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وكندا وتركيا، وتقضي المادة 5 من الاتفاقية بالدفاع المشترك بين أعضائه؛ فأي عدوان على أي منها يعد عدواناً على الجميع وعليهم المبادرة بمساندة تلك الدول عسكرياً، وعلى الرغم من قوة الحلف عسكرياً، الذي يضم ما يناهز 3.5 مليون فرد، ومثلهم من قوات الاحتياط، وعلى الرغم من قدراته العسكرية الفريدة إلا أنه يعاني، منذ وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة مشكلتين؛ تتمثل الأولى في تهديد ترامب بوقف تمويل الحلف؛ فقد خصصت الولايات المتحدة للحلف عام 2017 ما يزيد على 4.77 مليار دولار، وكان ترامب قد طلب أثناء قمة العشرين من الأعضاء الأوروبيين زيادة مساهماتهم المالية لتصل إلى 2% من الناتج القومي الإجمالي لكل دولة، وهو الطلب الذي انتقدته المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون، ومن جانب آخر، وبعد حل حلف وارسو المناوئ للناتو في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، وعلى الرغم من التقارب الروسي - الأوروبي، ورغبة ترامب في التخفيف من الالتزامات الخارجية الأمريكية، يصير السؤال: ما هو الهدف الراهن لحلف الناتو؟ خصوصاً أن قيادته ليست أوروبية خالصة، ولكنها مشتركة بين الدول الأوروبية والأعضاء غير الأوروبيين، وتحديداً الولايات المتحدة.
وما دفع ماكرون للدعوة إلى تشكيل جيش أوروبي حقيقي لحماية أوروبا من التهديدات الخارجية وقوع تطورين مهمين؛ يتمثل الأول في قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم عام 2015، ما ينذر بتكرار ذلك في أوروبا، والثاني إعلان ترامب الانسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى، والتي وقعها الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان والرئيس السوفييتي الأسبق جورباتشوف عام 1987، وكانت تقضي بالتخلص من 2600 صاروخ نووي متوسط المدى، والتي كانت موجهة ضد أوروبا، ونظراً لخطورة الانسحاب الأمريكي على الدخول في سباق نووي جديد، ما ينذر بحرب باردة جديدة، يرى ماكرون أن أوروبا ستكون ضحيتها، لأنها تقع بين شقي الرحى، من ثم؛ نادى بضرورة حماية أوروبا المستقلة بقوات موحدة لمواجهة كل التهديدات الخارجية، وكذلك التهديدات الداخلية في أوروبا المتمثلة في نمو وانتشار كل من الشعبوية والتطرف القومي اليميني، وعبر عن مخاوفه من أن يعيد التاريخ نفسه، وتقع أوروبا فريسة للقوى الكبرى المتصارعة عليها، ومن بينها الولايات المتحدة.
والواقع أنه قد وجدت محاولات أوروبية سواء قبل ماكرون أو بواسطته لتعميق التعاون العسكري الأوروبي خارج إطار حلف الناتو لتحقيق أمنها؛ فهناك مبادرة التعاون الدائم بين أعضاء الاتحاد الأوروبي فيما عدا بريطانيا ومالطا والدنمارك، والتي وقعت عام 2009، وتم تفعيلها عام 2017؛ حيث يتم التنسيق والتعاون بين القوات المسلحة للدول ال25، كما لعب ماكرون رأس الحربة في إنشاء قوة انتشار سريعة أوروبية من تسع دول، هي؛ فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبلجيكا والدنمارك وهولندا وإستونيا وإسبانيا والبرتغال، وتستطيع هذه القوات أن تقوم بعمليات عسكرية مشتركة سريعة، وإجلاء المدنيين عن مناطق الحرب وتقديم المساعدات في أعقاب الكوارث، كما تتمكن - في لمح البصر - من مواجهة أية أزمة، هذا الترتيب يمكن أن يضم دولاً غير أوروبية، كما أنه يلتزم بالاتفاقات العسكرية الأوروبية السابقة، وقد أضيفت لاهتمامات هذه القوة القضايا المتعلقة بالهجرة، سواء كانت شرعية أو غير شرعية. وعلى الرغم من أهمية دعوة ماكرون بإنشاء جيش أوروبي حقيقي ومستقل، إلا أنه ليس من اليسير وضعه موضع التنفيذ؛ فهناك قيادات لدول أوروبية تتحمس للدعوة وتعضدها مثل المستشارة الألمانية ميركل، التي تتوق مثل ماكرون، إلى أوروبا القوية المستقلة، وكذلك الدول ال9 المنضمة إلى مبادرة التعاون الدائم، إلا أن هناك دولاً أخرى، وعلى رأسها بريطانيا، متحفظة على إنشاء قوة أوروبية مستقلة، وترى أن حلف الناتو وبعض الترتيبات العسكرية الأخرى قد تكون كافية، وهي لا تريد الولايات المتحدة أن تفك ارتباطها بحماية أوروبا، كما أن ترامب اعتبر دعوة ماكرون إهانة للولايات المتحدة التي تحملت عبء حماية أوروبا لمدة تربو على سبعة عقود منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما أن قوى اليمين الأوروبي والاتجاهات الشعبوية ترفض هذه الدعوة؛ فقد هاجمتها ماري لوبان زعيمة اليمين الفرنسي، مشيرة إلى أنها تحض على بناء إمبراطورية أوروبية دون إدراك أن الإمبراطوريات السابقة كانت وراء الحروب التي أنهكت أوروبا فيما سبق.
ومن جانب آخر؛ فإن المفوضية الأوروبية ترى أن التعاون العسكري اللصيق لا يعني بالضرورة إنشاء جيش أوروبي موحد، وكبديل لذلك، ونظراً للفجوة بين دعوة ماكرون من ناحية، وموقف الشركاء الأوروبيين من ناحية أخرى، ولأهمية استتباب السلام الأوروبي، ترى مارجريت شيناز، المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، أن الاتحاد الأوروبي يدعم سياسة دفاعية قوية ذات خصوصية أوروبية تبدأ بالبحوث المشتركة وتوحيد عمليات شراء الأسلحة والمعدات، وفي هذا الصدد، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الميزانية العسكرية بحوالي 13 مليار يورو للبحوث العسكرية خلال السنوات السبع القادمة، من ثم؛ فإن توثيق التنسيق العسكري الأوروبي لا ينبغي أن يبدأ بجيش أوروبي موحد.
وهكذا، وعلى الرغم من أهمية ووجاهة اقتراح ماكرون بإنشاء جيش أوروبي موحد حقيقي، وهو ما يعكس قلق الأجيال الأوروبية الجديدة على مستقبل أوروبا، والخوف على وحدتها وصلابة أمنها القاري؛ فإن البعض هاجمه واعتبر أن هذه الدعوة لا تعدو أن تكون مناورة منه استعداداً لانتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2019، ومع ذلك؛ فإن عدم الاتفاق بشأنه داخل الاتحاد الأوروبي يجعل منه حلماً صعب التحقيق في الظروف الأوروبية الراهنة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"