منسيون يتصدرون المشهد

01:51 صباحا
قراءة 6 دقائق
القاهرة: مدحت صفوت

لا يمكن لأحد أن يتخيل كتابة أدبية تخلو من مفهوم البطل، شعراً ونثراً، وإن لم تكن البطولة لشخصية ما، فللفكرة، أو حتى للصياغة الجمالية والتشكيل اللغوي، وهو ما يعني أنه لا مفر من مفهوم البطولة في الأعمال الأدبية والفنية.

وعلى مدار التاريخ الإنساني والأدبي معاً، شهد مفهوم البطل تطورات هائلة، منذ أن كان مختصراً في الشخصية الأسطورية والخيالية في الآداب القديمة، أو ذلك الفرد الذي يواجه الطبيعة وقواها في الآداب الكلاسيكية، مروراً بالفرد المهزوم المنسحب والرافض للواقع البائس حسب التصورات الرومانتيكية، وصولاً إلى البطل الهامشي والمهمش بخاصة بعد ثورة الشباب 1968.

مع الألفية الجديدة نحتت الكتابات السردية - وبخاصة العربية - تجاه البطل التاريخي، الشخصية الملهمة التي تقدم قيمة اجتماعية وأخلاقية وفكرية، وتدور حولها الأحداث، ومثلما كان اللجوء إلى التاريخ بمنزلة المعادل الموضوعي لمشاكل الحاضر، ولكونه قناعاً للبحث عن أسباب العلة وسبل العلاج، كان اللجوء إلى التاريخ، أيضاً، شكلاً من أشكال مناهضة العولمة لما تحويه اللحظة العالمية الراهنة من حراك وتغير في موازين القوى عما كان عليه في منتصف القرن الماضي، وتغيرت تبعاً لذلك آليات تعامل الدول الكبرى مع الدول الصغرى، فتحولت من الغزو العسكري إلى المثاقفة القسرية أحياناً، وفرض أنماط معرفية معينة على الدول الصغرى، لا تحتاج إليها متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة.

إجلال


مع انتشار فيروس كورونا، تصدّر المشهدَ أربابُ مهن لم يكن المجتمع يلتفت كثيراً إليهم، وأصبح طواقم المستشفيات والعاملون بمجال الصحة هم الأبطال، وتصدرت أغلفة المجلات والصحف صور التعب والإنهاك وآثار العمل المتواصل من قِبل المسعفين ومقدمي الخدمات الصحية.

كأن البطولة عادت لتصورها الأول، في أن يصد الإنسان الكائناتِ الخرافيةَ، هذه المرة يتطلب من أبطال المرحلة الوقوف في وجه فيروس لا يُرى بالعين المجردة، فبات عاملُ توصيل الطلبات «الديليفري» بطلاً يُعرض نفسه للمخاطر بدلاً من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، والبسطاء الذين التزموا بالحجر الصحي، وتركوا أعمالهم التي تمثل المصدر الوحيد لدخولهم ومدخول أسرهم تجنباً للازدحام، والتزاماً بقواعد السلامة والتباعد الاجتماعي، تحولوا إلى منفذي مهام صعبة وشاقة يُنظر إليها بكثير من الوقار والإجلال.

هذه المرة جاء الالتفات إلى المهمشين من الواقع نفسه لا من الكتابات الأدبية، التضحية هنا من قلب اليومي والملموس والمادي، وليس من صنع الخيال ونتاج الحبكة والدراما، الأمر الذي قد يُغير من مسار البطولات في الروايات خاصة بعد مرحلة انتشار الوباء أو المشار إليها ب «ما بعد كورونا».

البطل هو ذلك الرجل في منتصف العمر الذي يفقد وظيفته، إلا أنه يمتلك قوة الإرادة للعودة إلى لعبة الحياة والبداية من جديد، هنا البطولة للمرأة المعيلة أرملة أو مطلقة، ترعى الأبناء مدفوعة بإحساس عميق بالمسؤولية، وتسعى إلى استمرار العطاء يوماً بعد آخر، حالمة بتوفير مستقبل أكثر إشراقاً لأطفالها.

قد تكون أزمة جائحة كوفيد 19، وانتشار فيروس كورونا فرصة حقيقية يمكن من خلالها أن نقول: إنه قد حان الوقت لتغيير نموذج البطولة، الذي لم يعد تصنيفاً أسطورياً محجوزاً للأبطال الخارقين في الكتب المصورة، أو عدد قليل من الرجال والنساء الأسطوريين، أو أولئك الذين يشبهون الطواويس يقضون أوقاتهم كما يقضيه «نرسيس» في المثيولوجيا اليونانية أمام المرآة وتحت الأضواء.

بعيداً عن البطولة المعلبة، يمكن أن نكون فعلياً أمام تجسيد عبارة «البطولة ملقاة على قارعة الطريق»، وتصبح طريقة للحياة، في الوقت الذي رفعتْ فيه البشرية شعار «لسنا بحاجة إلى أعمال أسطورية»، فالبطل لا يعتبر عمله مجرد وظيفة؛ بل هوية أصيلة وشارة عميقة ودالة.

نزعة محافظة

بالنسبة للأدب البريطاني الحديث وخاصة السرد، يعد الأقل في الآداب الغربية قفزاً تجاه المدارس غير المحافظة، أو النزعات التي تميل إلى التجريب أكثر من ميلها إلى ما هو راسخ ومستقر ومكتسب للأدبية كمفهوم «عريق». ومع هذه النزعة المحافظة، عمل عدد من الدارسين على تتبع تطور شكل البطل الذي شهدته الرواية البريطانية منذ بداية القرن التاسع عشر حتى الأدب المعاصر، ليقدموا في 2017 كتاباً مهماً بعنوان «البطولة والأبطال في الرواية البريطانية منذ 1800» من تحرير ستيفاني ليثبريدج وباربرا كورتي.

ويسعى الكتاب النقدي، الذي جرى الاحتفال به في الأوساط الأكاديمية البريطانية، إلى استكشاف خريطة تحولات البطولة في السرد الإنجليزي من خلال دراسة عدد وافر من الأعمال الروائية ذات الشهرة الواسعة أو تلك الأعمال التي يجري تداولها على نطاق أضيق.

الأبرز في هذا الكتاب هو توقف المؤلفين أمام البطولة المسكوت عنها نقدياً في الكتابات البريطانية لعقود طويلة، أي النماذج النسائية التي يرى مؤلفو الكتاب أنها طُمست نقدياً لمصلحة التركيز على بطولة الرجل المهيمن سياسياً واقتصادياً، ويستحوذ على الوظائف العليا، وينال الجانب الأكبر من الثروة، فمثلاً توظف بعض الروايات البطل الذكر، لكنها تقلب بسخرية التركيز المعتاد على الفرد في العالم لتجعلنا نرى المجتمع والأسرة برؤية جديدة، من دون أن تغفل بعض النصوص استدعاء سخرية الحكايات الشعبية المألوفة مثل «اللون الأرجواني»، و«بياض الثلج»، و«البطة السوداء» و«الجميلة النائمة». لكن دلالة هذه المحاكاة الساخرة لا تتضح إلا عندما يلاحظ القارئ الانقلاب الجندري والعرقي المتأثر بسخريتها: العالم الذي تعيش فيه بسعادة مطلقة بعد أن أصبح امرأة سوداء بتعبير الناقدة الكندية ليندا هتشيون.

ويضاف إلى ما سبق الميل في السنوات الأخيرة إلى إسناد أدوار البطولة الروائية إلى كادحين ومنتمين إلى الطبقات العاملة، وذوي العرقيات غير الأوروبية، في إطار محاربة العنصرية والنظرة غير السوية لكل ما هو غير أوروبي.

القارئ شريكاً

ومن التصور الثابت عن البطل الملهم بأشكاله المتباينة، دعت الحداثة وما أنتجته من مناهج بخاصة البنيوية إلى التخلص من مقولة «البطل» بوصفها ذات دلالة مقصورة على المعنى فقط، نحو احتمالات عدة تناقش مفاهيم قيمية وجمالية متنوعة، تحل محل الشخصية التقليدية التي تركز على البطل الواحد.

ومع التحول إلى ما بعد الحداثة، بدت الأمور أكثر راديكالية ضد البطل والبطولة معاً، ولنعي أبعاد هذا التصور يمكن اللعب مع طرح استراتيجيات ما بعد الحداثة من أركان العملية الإبداعية التي تدور حول ثلاثة خطابات يحملها الإبداع الأدبي بين جمله وتراكيبه ورؤيته، هذه الزوايا الثلاث تخرج من ثلاثية المبدع والنص والمتلقي، فالمبدع ذلك الحائر بين الظهور والخفاء، بين الحضور والغياب، السرمدي الساكن خلف حروف مطبوعة، ورؤية كامنة وشبه مستقرة، والنص القادر على حمل تلك الهموم بجانب إشكالية الصياغة وطرائق التعبير وأنساق الكتابة، كل ذلك يصب عند متلقٍّ مستعد ومتحفز ومهيأ للاشتباك، والاتفاق، والاختلاف، والقبول، والرفض.

وتعاملت ما بعد الحداثة مع ثلاثية الإبداع من خلال منظورها ورؤيتها، القائمة على نقد الميتافيزيقا؛ وألغت التمايز التقليدي والاعتيادي بين جنس الكتابة الأدبية وأجناس الكتابات الأخرى. خاصة الكتابات التحليليّة والنقدية والأنواع الاستطرادية الأخرى. وإسقاطاً لفكرة البطولة برمتها، أكدت الدراسات الألسنيّة أن المؤلف فكرة مستحدثة ومرتبطة بنظام النشر وقوانينه، وحقوق التأليف والنّشر، إلى غير ذلك. ما دعا أرباب الحقول الألسنيّة إلى القول بغياب المؤلف أو تغييبه، حتى وصل الأمر إلى الموت على يد الفرنسي رولان بارت، وفي الواقع لم يكن بارت سوى المعلن عن هذا الموت، كمقيم شعائر يعلن عن وفاة شخص ما ولا يعني أنّه من أماته.

ويذهب بعض الباحثين إلى أن موت المؤلف لا يمثل حقيقة تاريخيّة فقط، وإنما يمثل أحد متطلبات تطور النّصّ الحديث، ذلك أن المؤلف ليس سوى ماضي كتابه الذي له ملامحه الخاصة، فالعلاقة بين المؤلف وكتابه مثل العلاقة بين الابن وأبيه، هي علاقة لا تحول دون نمو الطفل ذاتياً ومستقلاً، لكن ما بعد الحداثة - في واقع الممارسة - فرقتْ بين المؤلف والشخص الذي كتب النّصّ، فالأخير هو الذي يرتبط بالنّصّ ارتباط الأب بالابن، علاقة نسب لا أكثر، أما المؤلف، فهو مجموعة من الأنساق المتداخلة والمتفاعلة التي تواطأت على إنتاج نصّ ما.

ومن ثمّ شنت ما بعد الحداثة هجوماً على فكرة المؤلف؛ حيث إن إعطاء النّصّ مؤلفاً مجدداً يعني فرض محدوديّة على النّصّ وربطه بمدلول نهائيّ لا يتغير، وبمعنى آخر يعني إغلاق النّصّ، كذلك شنت هجوماً على البطل الفرد، سواء بالمفهوم الكلاسيكي أو الرومانطيقي، وبات السياق الفاعل هو البطل المهيمن على كتابات ما بعد الحداثة.

مات المؤلف والنّصّ لم يعد هدفاً في ذاته، أو مرمى يمكن الوصول إليه، وإنما كان الهدف دوماً فضح وكشف وتفكيك التمركز الميتافيزيقيّ داخل النّصّ الذي اعتبر نتاج تداخل مجموعة من الآثار النّصّيّة، وهي فكرة مستقاة من كتابات الألماني مارتن هايدجر، فكل نصّ جديد بالنسبة لهايدجر في حقيقته تناص، والنّصّ الجديد ينشأ عن نصوص سابقة، ويحمل في داخله بقايا التراث الثقافيّ.

أما بالنّسبة لثالث أضلاع العمليّة الإبداعيّة، القارئ، فإنّه «بطل هذا العصر» الحر في مسارات لا نهائيّة. كما أنه أصبح مفهوماً نظرياً أكثر منه واقعاً تجريبياً وفعلياً، وغدا مرمى العمل الأدبي - في ظل ما بعد الحداثة - إحالة القارئ إلى مُنتج للنصّ لا متلقٍّ استهلاكيّ وكفى.

لغة عادية

الالتفات إلى الأبطال العاديين لا يتطلب فقط تغييراً في مسار رؤية الأحداث، أو تصور العالم الأدبي، إنما يمتد أثر ذلك إلى اللغة الأدبية، فلم تعد الروايات تحتفي بالزخرف اللغوي، ولا بالإيغال في التجريد الشعري، إنّها لغة حكي بالمعنى المباشر، وتُعنى في الأساس بنقل الحدث وأداء الدّور الوظيفيّ، ليظنّ المتلقي في البداية أنّها لغة جافة، لكنّها لغة تعرف وظيفتها الأساسيّة، ولا تكاد تهتم سوى بها، ألا وهي نقل الحدث.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"