وجوه مغدورة

04:09 صباحا
قراءة 5 دقائق
** يوسف أبولوز

(1)

بعض حَيَوات الكتّاب.. شعراء أكانوا، أم أكانوا روائيين على وجه الخصوص.. راكدة. جامدة. جافة أو شمعية. حَيَوات باردة لا حياة فيها. حَيَوات رتيبة، نمطية تكرارية لا ضوء فيها ولا شعاع، وهذا النوع من الكتّاب أو هذا النوع من الحَيَوات «الصندوقية» المحددّة المغلقة لا يصلح للسينما، ولا يجذب مخرجاً أو منتجاً لصناعة فيلم لا حياة فيه.
في المقابل، هناك حَيَوات سينمائية بامتياز. شعراء وروائيون عرب ومن العالم تصلح سيرهم الذاتية، وقبل ذلك، تصلح يومياتهم وعيشهم وحضورهم الحارّ والحيوي والحركي لأن تكون سينما، وليست أية سينما. بل سينما الحياة بكل ما فيها من دراما وتراجيديا. أو بكل ما فيها من مأساة وملهاة.
بطل الفيلم في مثل هذه السينما وجد نفسه في هذا التوصيف الفني بالصدفة. وهو لا يعرف التمثيل وينفر منه، لكنه وُلِدَ ليكون «بطلاً» سينمائياً من نوع آخر. بطل حزين. مطحون. بطل رصيفي تماماً. وهامشي تماماً. وسوف يلتقطه مخرج ما بفطرته الفنية، ويحوّله إلى مادة مرئية. يحوّله إلى صوت وصورة.
وقبل أن نمرّ مروراً «كريماً» إن أمكن ذلك على نماذج من هذه الحيوات السينمائية، تجدر الإشارة إلى أنه ليست حياة الكاتب شاعراً أم روائياً، هي فقط تصلح أن تكون شريطاً سينمائياً أو فيلماً «بالأبيض والأسود»، بل هناك العشرات بل المئات من الرسّامين، والموسيقيين، وحتى السياسيين والاقتصاديين تصلح حَيَواتهم أن تكون سينما.. وبكلمة ثانية، كل إنسان له سينماه، وله شريطه، وله فيلمه المخبأ وغير المكشوف. كل إنسان على نحو ما هو ممثل، بالطبع، بطريقة ليست مهنية أو حرفية. كل إنسان يحمل ازدواجية ما. ويحمل أكثر من وجه: وجه البيت والعائلة، وجه الوظيفة والعمل، وجه الشارع، وجه المكتب الرسمي، الوجه المشرق الصبوحي أمام امرأة ما.. والوجه الكدر المعتم الجامد أمام رجل ما...
كلّنا سينمائيون، وإن بدرجات متفاوتة. لكننا لسنا محترفين، بل نحن سينمائيو الفطرة والحدس والصدفة، وكلما كانت حَيَواتنا غزيرة، مائية، شجرية، حرّة، انفعالية.. نصبح أقرب إلى أن نكون أشرطة سينمائية، وكلما كانت حَيَواتنا معلّبة، وناشفة نصبح أبعد فأبعد عن ذلك الشريط.
هذه نقطة أوّلية، النقطة الثانية، أن الحياة التي تنتج سينما أو «يخرج منها سينما» هي حياة متوترة في الكثير من الأحيان، وفي الكثير من الأحيان هي حياة قصيرة. حياة إبداعية قصيرة، وأركّز على وصف إبداعية؛ ذلك أن السينما نفسها هي فن إبداعي من طراز رفيع، وهي كما قلنا حياة الشاعر أو حياة الروائي. لكن الغريب أن تاريخ النقد الأدبي على سبيل المثال لم يحمل حياة متوترة، مشدودة، عصابية أو عصبية لأحد النقاد؛ بحيث يكون بطل ذلك الشريط اليومي الذي تحدّثنا عنه قبل قليل، ذلك ببساطة ربما يعود إلى العقلية الأكاديمية التي تحكم شخصية الناقد الأدبي؛ بحيث لا تتوفر في هذه الشخصية عناصر الدراما السينمائية.

(2)

حوّلت السينما حياة الشاعر نزار قباني إلى فيلم أو إلى شريط، وكذلك، محمود درويش، وناجي العلي، طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم (أفلام ومسلسلات)، لكن ما يمكن أن يُسمى الحيوية الدرامية لم تظهر في هذه الأفلام والمسلسلات، إن لم تكن هذه المادة الفيلمية باردة.. لماذا؟.. مرة ثانية، يتحكم في كل ذلك طبيعة الشخصية نفسها. هل يمكن أن نقارب بين شخصية شاعر، برجوازي، أو ارستقراطي (يكتب بالحبر الأخضر) مثل نزار قباني، وشخصية شاعر آخر مثل بدر شاكر السيّاب أو نجيب سرور، أو أمل دنقل، أو خليل حاوي (المتوتر الأبدي، والذي كان يعمل حجّاراً، وفي حصار بيروت) انتحر (في عام 1882).
هل البرودة الممكنة في سينما أو في شريط أحمد شوقي يمكن أن تكون في مستوى الحرارة الفائضة في حياة شاعر مثل حافظ؟.. متقابلات لا بدّ منها ونحن هنا نقوم بتوليف هذه الكولّاجات السينمائية المقترحة أو المفترضة لحَيَوات شعراء عاشوا في قلب النار، ولكنهم ليسوا شعراء الجحيم.

(3)

يقترح المصوّر السينمائي مشهداً مكثفاً لجنازة بدر شاكر السيّاب في يوم ماطر؛ حيث ينقل جثمانه من المستشفى الأميري في الكويت؛ حيث كان يُعالج، إلى البصرة، ثم إلى مقبرة الحسن البصري في الزبير.
لتقريب الصورة السينمائية، أو لتطهيرها، ولتكن هنا صورة بالأبيض والأسود تتلاءم والمشهدية الكلاسيكية في ستينات القرن العشرين.. ننقل هنا عن الموسوعة الحرّة ما قاله شيخ النقاد العرب إحسان عباس في وصف السيّاب: «.. غلام ضاوٍ نحيل كأنه قصبة. رُكب رأسه المستدير كأنه حبّة الحنظل على عنق دقيقة تميل إلى الطول، وعلى جانبي الرأس أذنان كبيرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التي تنزل في تحدّب متدرّج أنف كبير يصرفك عن تأمله أو تأمّل العينين الصغيرتين العاديتين على جانبيه فم واسع».
هذا الوصف لبدر شاكر السيّاب يجذب أوّل ما يجذب مخرجاً سينمائياً يكون قد عثر على وجه فيه الكثير من اللغة، والتعبير. وجه غير عادي. وجه فيه شيء من النحت أو الرسم، وإن كان رسماً درامياً...
قبل قليل أشرت إلى أن الحَيَوات المتوترة، العصبية، الحارّة، هي حَيَوات سينمائية. بعد وصف وجه بدر شاكر السيّاب فإن الوجوه المنحوتة، الغائرة، والبارزة، الطولية، النحولية، الحزينة، هي أيضاً وجوه سينمائية.
قريباً من وجه بدر شاكر السيّاب. هناك وجه أمل دنقل. إنه وجه مملوء بالتعبير. ليس وجهاً شمعياً مسطّحاً أملس. بل هو بامتياز وجه الشاعر.. الذي له هو الآخر «كولّاجه» الافتراضي أو المقترح.
من قرية القلعة في صعيد مصر إلى الإسكندرية، إلى القاهرة، هذا هو «الجنوبي» الصعيدي يكتب الشعر، وفي الوقت نفسه يكتب الحياة. يمرض، وعلى سرير المرض يكتب قصائد عن الزهور التي يحملها إليه زوّاره، وكل باقة معها بطاقة. تموت الزهور، وإلى جانبها يموت الشاعر.
يقفز أمل دنقل من الوظيفة التي تكبل روح الشاعر. يقفز من يوميات موظف الجمارك إلى الحقيقة النارية في ذاته، وهي حقيقة الشعر.
شريط سينمائي آخر. حياة غنية باللغة والتعبير، وأيضاً وجه غني بالإشارات والكنايات، ويستطيع سينمائي مجرّب، مجرّب فقط، وإنساني فقط، أن يسبر أعماق تلك الحياة، وأعماق ذلك الوجه.
عاش محمد الماغوط حياة سينمائية هو الآخر. يقول إن دموعه أصبحت زرقاء لكثرة ما كان يتطلع إلى السماء. جزء من هذه السينمائية يتمثل في هذا المشهد الساخر.. يقول إنه كان يتردد على مقرّ أحد الأحزاب في بيروت أو في دمشق.. ليس لأنه حزبي أو يحب التحزّب والأحزاب، بل، لوجود مدفأة وثلاجة. كان يأكل ويتدفأ.. ليس لأنه اتكالي أو انتهازي، بل، لأن حقيقته هي حقيقة الشاعر الساخر، وفي حين كان نزار قباني يكتب شعره في هواء الياسمين الدمشقي، كان محمد الماغوط يكتب شعره بالقرب من دموع بردى. الأنهار تبكي كما يبكي الشعراء. صورتان سينمائيتان مفترقتان. شريط بالأبيض والأسود بدمغة الماغوط، وشريط ملوّن معطر بدمغة نزار قباني.
لكل شاعر سينماه.. لكل شاعر شريطه..
من سينما الرصيف، إلى سينما الجوع، إلى سينما الحرمان، إلى سينما الانتحار، إلى سينما الحب، إلى سينما الموت. سردية لا تتوقف ولم تتوقف: نجيب سرور، تيسير سبول، يحيى الطاهر عبدالله، مصطفى وهبي التل، جان دمّو، علي الجندي، أنسي الحاج، وحتى محمد الفيتوري.. وغيرهم وغيرهم من روائيين وشعراء ذوي الحَيَوات الحارّة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"