ضاقت فلما استحكمت حلقاتها.. فرجت وكنت أظنها لا تفرج.
جاء رمضان هذه السنة بحلة أبهى، وصورة غير التي اعتدنا عليها من قبل، فقد جاء شفاء لأسقام مزمنة وأمراض مستعصية، تزامناً مع عدم استقرار الأوضاع في العالم. جاء أماناً وسكينة وطمأنة لقلوبنا، ليربت على أكتافنا بأن رحمة الله وسعت كل شيء، فنحن في حفظ من المولى عزل وجل، آمنين في بيوتنا، يصلنا قوت يومنا.
جاء رمضان ليعيد ترتيب حياتنا المبعثرة، ويُلملم شتاتنا وأوجاعنا التي تراكمت عليها قرابة سنة، وليُزيل الشوائب التي علقت بالقلب، وسببت له الأمراض؛ تلك الشوائب من حقد وحسد، وبغضاء تعمي القلوب، ولا تسيء إلا لصاحبها في المرتبة الأولى، وجاء الشهر الكريم فرصة لإفراغ كل ما ملأ القلب من أمور لا تعود بمنفعة عليه، وتسبب له عللاً لا نهاية لها.
أيضاً هو فرصة للابتعاد عن كل ما تعلّق به القلب من أشخاص وأموال ومناصب صرفته عن الطريق الحق، أمور في النهاية زائلة، والباقي هو الله الواحد الحق. ويمنحنا الشهر المبارك فرصة الرجوع إلى الله في خشوع العبادة، ولذة الاستغفار، والتمعن في قراءة القرآن الكريم لإمداد الروح التي سكنت هذا الجسد، والاستزادة من روح الله، ففي هذا الشهر خير عظيم لا يحس به إلا من نقّى قلبه، وطهّره من براثن الدنيا، ثم أعاد شحنه برجوعه إلى الله، واستزاد من قربه له بترسيخ القيم الروحية، بما يؤدي إلى استمرارها وثباتها، لتنعكس على أخلاقيات الفرد نفسه بعد رمضان، ويواصل رحلة الحياة في حب الله، والخشية منه، وتقدير عظمته، وترويض النفس على فعل الخير، وتقوية روح الإنسان على تحمل المسؤولية، والابتعاد عن الأخلاق الدنيئة.
ومن التأدب في هذا الشهر الكريم استشعار فضائله، ففيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النيران، ويهيئ الله كل الظروف لأداء العبادات والإكثار منها، وتُزكى النفوس بتصفيد الشياطين لأنها مصدر الذنوب والمعاصي، ويتفضل الله فيه على عباده الصائمين بأن يُعتقهم من النار ويدخلهم الجنة، وفيه ليلة خير من ألف شهر، أُخفي موعدها لاستمرار العبادة، ورمضان العطاء موطن إجابة للدعاء، وللصائم دعوة لا ترد.
ولا يكون الصوم عن الأكل والشرب فقط؛ بل هناك صوم الجوارح عن كل ما يغضب الله، لتأديب النفس وتهذيبها، والتخلص من كل ما يعوق تأدية رسالتها في الوجود، وإعادة تعبئتها للمحافظة على استمرارية الحياة.
