الحريات العامة والرقابة الاجتماعية

04:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

الدول الغربية تجاوزت مبادئ الحريات الفردية والجماعية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 من أجل حماية مواطنيها من الهجمات الإرهابية.

تلعب الكوارث الإنسانية الكبرى ومن بينها الأزمات الصحية الاستثنائية كالأوبئة، دوراً حاسماً في تسريع مسار التحولات على مستوى المجتمعات والدول، فقد شهدت البشرية خلال أسابيع قليلة من تفشي فيروس «كورونا»، تطورات غير مسبوقة على مستويي العلاقات الاجتماعية وصلات الشعوب بأنظمة الحكم وبأجهزتها الرقابية والأمنية، وعرف العقد الاجتماعي المنظم للديمقراطيات الكبرى تحديات ناجمة عن التقييد الكبير للحريات الفردية والجماعية، نتيجة قيام السلطات العمومية باتخاذ إجراءات غير مسبوقة بهدف حماية المجتمعات من التداعيات الخطرة للجائحة، من خلال فرض حجر صحي وعزل منزلي على كافة المواطنين.

وقد تمثل التحدي الأكبر فيما يتعلق بمجموعة الإجراءات الطارئة التي اتخذتها الدول القومية في كونها تتعارض مع الدساتير الوطنية ومع التشريعات القانونية المنظمة للعلاقة ما بين الحكام والمحكومين، لاسيما في مجال الحريات العامة، وجرى في السياق نفسه تعطيل العديد من القواعد المتعلقة بشكل أساسي بمبدأ الفصل بين السلطات، وبخاصة في الحالات التي منحت فيها السلطة التنفيذية لنفسها الحق في إصدار قوانين تنظيمية ليس من أجل حماية مواطنيها من الأخطار الخارجية، لكن لحماية المجتمعات م نفسها في وضعية يكون فيها المجتمع مصدراً للخطر من جهة، وبمثابة الجهة التي يتوجب حمايتها من الخطر ذاته من جهة أخرى.

ويمكننا أن نلاحظ أن ما حدث من تراجع في الحريات الأساسية خلال الأسابيع الماضية لا يمثل استثناء جديداً، فقد سبق للكثير من الدول الغربية أن لجأت إلى تجاوز مبادئ الحريات الفردية والجماعية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 من أجل حماية مواطنيها من الهجمات الإرهابية، وأثارت في حينها التدابير الأمنية المقيدة للحريات نقاشاً سياسياً ومجتمعياً كبيرين بشأن الضوابط التي يجب أن تخضع لها هذه التدابير الأمنية الاستثنائية من أجل احترام الحريات العامة التي تؤكدها القوانين والتشريعات، وبخاصة أن العقوبات التي تُفرض على المواطنين في حالة الأزمات الأمنية والصحية تتعارض مع المبادئ المنصوص عليها في الدساتير الوطنية.

وبالتالي فإن عجز الدول عن توفير علاج ملائم للجائحة الخطرة التي قوّضت المنظومات الصحية لدول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، جعل هذه الدول تلجأ، كما ذهب إلى ذلك بعض المحللين، إلى فرض عزل وحجر على مواطنيها باستثناء دول قليلة مثل السويد التي حاولت مواجهة الأزمة الصحية دون التضحية بالحريات العامة، لاسيما أن هناك من ذهب إلى القول إن إجراءات الحماية تحولت في بعض الحالات إلى تدابير للمراقبة وتحديداً في الدول التي استعملت التكنولوجيات الحديثة للقيام بمراقبة رقمية للحشود، كما حدث في أستراليا على سبيل المثال عندما اقترحت السلطات وضع سوار إلكتروني لمراقبة الأشخاص الذين من المحتمل إصابتهم بالمرض.

وبموازاة هذا النقاش لدى المجتمعات الغربية بشأن الحريات العامة في زمن الجائحة، هناك مجتمعات ودول أخرى، لاسيما في شرق آسيا، أبدت كفاءة مشهود لها عالميا في مكافحة المرض ولا تُطرح لديها مسألة الحريات العامة بالأسلوب نفسه؛ إذ إن المواطن في هذه الدول يعتبر حريته الفردية جزءاً من النظام المجتمعي العام ولا يرى ضرراً في الخضوع للضوابط من أجل المساهمة في إنقاذ المجموعة الوطنية التي ينتمي إليها، وعليه فإن المواطن الصيني على سبيل المثال أسهم بقسط وافر في إنجاح التدابير التقنية التي اعتمدتها سلطات بلاده من خلال استثمار البيانات الضخمة لمراقبة وتتبع المصابين عبر تطبيقات الهواتف الذكية في الأماكن العامة كوسائل النقل ومراكز التسوق.

ويمكننا أن نزعم في الأخير أن هذا النقاش المتعلق بالحريات والرقابة الاجتماعية سيحظى مستقبلاً بمزيد من الاهتمام لدى مختلف المجتمعات، بين من يرفضون الإدارة الأمنية للصحة والقضايا العامة ويطالبون بتنظيم «مقاومة سيبرانية» كما يسميها جاك أطالي، وبين من يرون أن توظيف آليات المراقبة التكنولوجية يمكنه أن يُسهم في مواجهة الأزمات الصحية الطارئة التي لا تملك المنظومات الطبية بشأنها الوسائل القادرة على مواجهتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"