الزاهرة..مدينة الحاجب المنصور المندثرة

03:45 صباحا
قراءة 4 دقائق

حملت الحضارة الإسلامية قيماً إنسانية عظيمة، ارتقت بها عن مثيلتها من الحضارات المعاصرة لها، فلم يكن دخول المسلمين للبلدان التي فتحوها للاستيلاء على خيراتها واستعمارها، بل ليكون بداية عهد جديد لنشر الهداية والطمأنينة، فالإسلام، دين وقيم وعلم، يحقق الغايات المثلى للوصول للكمال الخلقي، يقضي على الظلم ويفتح مغاليق الجهل والتأخر، ويدعو إلى ترك الاتباع الأعمى والبعد عن العصبية والقبلية.

هذه القيم السامية سعى إليها المسلمون عندما فتحوا المدن والأمصار، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينهَى أصحابه عن قتل النساء والشيوخ والأطفال، ويمنعهم من إتلاف الزرع وإهلاك المواشي وتخريب البلدان. إن الأصل في الفتح هو الحفاظ على السلم والأمن ونشر دين الله الحنيف، يقول ربعي بن عامر، مبعوث سعد بن أبى وقاص إلى رستم قائد الفرس في موقعة القادسية: «إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم». ولم يكن الفاتح العربي هادماً ولا مدمراً، بل معمر وبناء ومضيف، فعمل على إعادة بناء المدن المفتوحة لتحمل طابعاً حضارياً وإنسانياً، فتنتشر بها معاهد العلوم الدينية والدنيوية، تمهد الطريق للرقي لأهل هذه البلدان، وهو ما يظهر في إعادة تخطيط وإعمار المدن الإسلامية العديدة، في العراق والشام ومصر وإفريقيا والأندلس، وولادة مدن جديدة تخرج من رحم حضارة البناء والتعمير.

مدينة الزاهرة إحدى بقايا حضارة الأندلس المندثرة، وبعض من مآثر الحاجب المنصور بن أبي عامر الخالدة، والتي كانت شاهدة على ما وصلت إليه الأندلس من عهد زاهر وحضارة سامقة. ويقول عنها الحميري في كتابه «صفة جزيرة الأندلس»: مدينة متصلة بقرطبة من البلاد الأندلسية، بناها المنصور بن أبي عامر. وأما عن الموقع الذي كانت تحتله الزاهرة على وجه التحديد فاختُلف فيه؛ لأن البحوث الأثرية الحديثة لم تكشف شيئًا من معالمها، مثلما فعلت بالنسبة لمدينة الزهراء. ويقول البعض إنها كانت تحتل جزءا بسيطًا يقع جنوب شرقي قرطبة في منحنى نهر الوادي الكبير، وعلى قيد أميال قليلة منها. ويقول البعض الآخر إنها كانت تحتل بقعة على مقربة من شرقي قرطبة على الضفة الجنوبية لنهر الوادي الكبير.

قام المنصور بن أبي عامر باقتفاء أثر الخليفة عبدالرحمن الناصر عندما شرع في بناء مدينة خاصة به سنة 368 ه/978 م اتخذت اسم الزاهرة، ويذكر ابن عذارى في «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» عن الفتح بن خاقان الإشبيلي ( 528 ه / 1134م): في سنة 368ه، أمر المنصور بن أبي عامر ببناء قصره المعروف بالزاهرة، وبنى معظم المدينة في عامين، وفي سنة 370ه، انتقل المنصور بن أبي عامر إليها، ونزلها بخاصته وعامته؛ فتبوأها وشحنها بجميع أسلحته، وأمواله وأمتعته، واتخذ فيها الدواوين والأعمال، وتم بناء الزاهرة في سنة 370 ه/979م وانتقل إليها المنصور بحاشيته وخاصة من الحرس، وشحنها بأنواع الأسلحة»، والذي دفع المنصور ابن أبي عامر إلى بناء مدينة الزاهرة لا يختلف كثيرًا عن الدوافع التي حدت بالخليفة الناصر إلى تأسيس مدينة الزهراء، من حيث تمجيد عصورهم بمنشآت مميزة، دلالة على العزة والسلطان الواسع.

ولم يكن اتجاه ابن أبي عامر يقف عند تحقيق المظهر دون غيره، ولكن كانت لديه أسباب عملية قوية، تدعو إلى التحوط من أخطار التآمر والغيلة، وأصبح يخشى على نفسه من الوجود في قصر الزهراء، ومما قد يضمره بعض الحاقدين المتربصين، ورأى أن يتخذ له مركزًا مستقلاً للإدارة والحكم، يجمع بين السلامة ومظاهر السلطان والعظمة، فوضع أسس مدينة جديدة أسماها الزاهرة (368ه - 978م)، وأمر المنصور بن أبي عامر ببناء قصره المعروف بالزاهرة لتحقيق هدفين مهمين، الأول: هو الابتعاد عن مناطق الخطر والمؤامرات حيث مواطن الأمويين، والثاني هو ترسيخ وتثبيت شأنه في الدولة، وخطوة على طريق الانفراد بإدارتها.

مساكن للحرس

بنى المنصور بن أبي عامر بالزاهرة قصراً ملوكياً فخماً، ومسجداً، ودواوين للإدارة والحكم، ومساكن للبطانة والحرس، وأقام حولها سورًا ضخمًا، ونقل إليها خزائن المال والسلاح، وإدارات الحكم، وأقطع ما حولها للوزراء والقادة، وأكابر رجال الدولة، وأنشئت الشوارع والأسواق الفسيحة، واتصلت أرباضها بأرباض قرطبة، وأضحت تنافس المدينة الخليفية في الضخامة والرونق، واتخذ له حرساً من الصقالبة والبربر، وأحاط قصره الجديد بالحراس والحاشية، يرقبون كل حركة وسكنة في الداخل والخارج. ويقول الفتح بن خاقان: نسق فيها المنصور كل اقتدار معجز ونظم، وحشد إليها الصناع والفعلة، وجلب إليها الآلات؛ وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها، وشحنها بجميع أسلحته، وأمواله وأمتعته، واتخذ فيها الدواوين والأعمال. وقامت بها الأسواق، وكثرت فيها الأرفاق؛ وتنافس الناس في النزول بأكنافها، والحلول بأطرافها، وتناهى الغلو في البناء حوله، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة، وكثرت بحوزتها العمارة، واستقرت في بحبوحتها الإمارة. وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي، ورتب فيها جلوس وزرائه، ورؤوس أمرائه، ونصب على بابها كرسي شرطته، وأجلس عليه والياً على رسم كرسي الخليفة، وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تحمل إلى مدينته تلك الأموال الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات، وينتابها طلاب الحوائج، فاقتضيت لديها اللبانات والأوطار، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار.

نهب القصور

لم تعمر مدينة الزاهرة طويلًا فقد كان عمرها رهينًا بعمر الدولة العامرية، فما أن قتل عبدالرحمن الملقب شنجول حتى عم الخراب عمائر هذه المدينة ونهبت قصورها وانتهت رسومها في الفوضى التي عمت البلاد سنة 399ه. ففي 16 جمادى الآخرة سنة 399 ه/ 1009م سيطر محمد بن هشام حفيد عبدالرحمن الناصر الملقب بالمهدي على قصر الخليفة هشام المؤيد، الذي أعلن تنازله عن الخلافة ليتولاها محمد بن هشام مكانه، الذي أتم السيطرة على مدينة الزاهرة فاستبيحت ونهبت خزائنها وأحرقت حتى لم يبق المهاجمون على أثر يذكر لعمائر وذخائر الزاهرة والعامرية. واندثرت بهذا التخريب مدينة الزاهرة اندثارًا يختلف عن ذلك الذي حل بالزهراء، إذ عثر على الكثير من قطع المدينة الأخيرة مبعثرة في بلدان أخرى، وتم التعرف إليها بفضل ما عليها من كتابات، بينما لم يبق شيء من مآثر الزاهرة، سوى حوض من المرمر، مكسور وغير كامل، وصل إلى إشبيلية ويحفظ الآن في المتحف الوطني بمدريد، كما أنه لم يبق من الزاهرة فيما بعد أي صدى في التقاليد المحلية، لذا اختلف في تحديد مكانها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"