دائرة التيه

02:30 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

ليست الحكومات وحدها المسؤولة عن الأزمة التي نعيشها، ولكن الشعوب أيضاً بمختلف فئاتها، اختارت العشوائية والتناقض واللامبالاة نهجاً.

تيه، تخبط، عشوائية، فوضى، توصيفات مختلفة لحال العالم في ظل «كورونا»، اختر منها ما تشاء، وأطلق لخيالك عنان التأمل والتقصي حول أوضاع بني البشر اليوم، ستجد أننا، جميعاً، القاطنين في أربع جهات الكوكب، نعيش في حالة من التيه، بعد أن فقدنا ملامح الطريق إلى المستقبل، كأننا في صحراء بلا معالم، أو فضاء بلا ملامح، وأورثتنا تصريحات مسؤولي الصحة العالمية، والعلماء، ورجال السياسة، وحاملي لواء المسؤولية عن الكوكب، حالة من التخبط، وخلّف لنا الجهل والتخلف الذي يعيش بيننا وغير الملتزم بأي إجراءات احترازية للوقاية حالة من العشوائية، ونجمت عن كل ما سبق حالة من الفوضى في القرارات، والسلوكات، والتنابذات، والصراعات.

وكاد عام 2020 أن ينتصف، وبعد أن قضينا 6 أشهر مع فيروس (كوفيد 19) ازددنا حيرة، وقلقاً، ولم نجد جواباً شافياً لأي تساؤل يدور في أذهاننا، وما أُعلن عنه أمس، تم نفيه اليوم.

قرارات عدة اتخذتها دول وسرعان ما انقلبت عليها، وتراجعت عنها بقرارات بديلة مناقضة. ودول كبرى استهانت بالفيروس في البداية، وخرج سادتها للرأي العام «مبشرين» بأنه مجرد إنفلونزا، وبعد أن تمكّن من بلادهم، وأصاب الأقربين إليهم، وفضح ضعف أجهزتهم الطبية والوقائية، وحصد الآلاف من رعاياهم، خرجوا يحاولون تحميل الآخر مسؤولية تخليق ونشر الوباء.

وتحدث بعض الكبار عن اتباع سياسة «مناعة القطيع»، وبعد أن أصاب الوباء، رئايهم، ورئات محيطين بهم، أقروا بالحظر الشامل، وأتبعوه بحظر جزئي، ثم التخفيف، ثم العودة للكامل بعد أن عادت أرقام المصابين والموتى للارتفاع، وهو النهج الذي سارت عليه دول في الغرب، والشرق، وبينها دول عربية عاشت الحيرة نفسها، وغرقت في دائرة التيه.

البعض لم يكتف بإعادة النشاط الاقتصادي والتجاري من منطلق أن «الضرورات تبيح المحظورات»، بل وصلت به الجرأة إلى إعادة فتح المدارس، والجامعات، ليقع في فخ ارتفاع أعداد المصابين، ويجد نفسه في موقف لا يحسد عليه

نتيجة التسرع في اتخاذ القرارات، والعشوائية في التنفيذ.

الاقتصاد العالمي ينهار، والبطالة تزداد، ودولة، مثل أمريكا، يتم تسريح أكثر من عشرين مليون موظف فيها خلال الشهر الماضي، والاحتياطي النقدي للدول يتناقص، والرعب من أزمة اقتصادية غير مسبوقة يعم الكوكب، وأمام كل ذلك، لا حلّ شافياً، ولا رؤية واضحة، والخبراء والعلماء والساسة عاجزون، يرتجلون القرارات.

أما بالنسبة إلى العلاج واللقاح، فالكلام كثير، والفعل قليل، ولم يكن أمام العالم سوى البحث في الدفاتر القديمة، واللجوء لتجربة أدوية موجودة بالفعل. البعض وجد ضالته في «ريميديسفير»، وآخرون لجأوا إلى «هيدروكسي

كلوروكين»، وكلاهما معالج للملاريا، وكلاهما تم استخدامه للتجربة، وكلاهما مجرد مساعد، يشفي البعض، ويترك البعض يفترسه الفيروس، والنتيجة لا يقين، ولا حل جذرياً. أما بالنسبة إلى اللقاح فقد سمعنا جعجعة كثيرة من دول عدة تسعى للحصول على السبق لأهداف سياسية، واقتصادية، ولكننا ما زلنا في انتظار الطحن، ونتمناه أن يكون سريعاً ليساعدنا على الخروج من دائرة التيه.

ليست الحكومات وحدها المسؤولة عن الأزمة التي نعيشها، ولكن الشعوب أيضاً بمختلف فئاتها، اختارت العشوائية والتناقض واللامبالاة نهجاً، فكثير من الناس يتأففون من حظر التجول، وفي الوقت نفسه يخشون رفع القيود. والكثيرون الكثيرون يرفضون ارتداء الكمامات، والكفوف، ولا يلتزمون بالتباعد الاجتماعي، ويستهينون بالأمر رافعين شعار «كله على الله»، كأن الله أمرنا بالاستهتار، والتواكل، وإذا طرق الفيروس أبوابهم يلومون الحكومات، ويحمّلونها المسؤولية.

حالة الحيرة التي نعيش فيها لا تلوح لها نهاية في الأفق، خصوصاً أن العالم لا يوجد فيه أحد يعلم لهذه الأزمة حدوداً. قالوا إنها ستنتهي عندما ترتفع درجة الحرارة، وحدد لها الرئيس ترامب شهر أبريل/‏نيسان، ثم حدد لها، هو ومساعدوه، أغسطس/‏آب، وبعد كثير من الكلام قالوا إنه وباء سيعيش معنا، وعلينا أن نتعايش معه، وأن الإنقاذ لن يكون سوى باللقاح. سيناريو لا يخلق إلا مزيداً من القلق، والحيرة.

الصين أعلنت أنها قضت على الفيروس وتعافت منه بشكل كامل، ولكن عداد المصابين الجدد، والموتى، لم يتوقف، ومدينة ووهان التي انطلق منها متجولاً في العالم، وأُعلن عن خروجه منها نهائياً، تم الإعلان الأسبوع الماضي عن عودته إليها ثانية.

تيه، وعشوائية، وفوضى، وتخبط، دائرة لن نخرج منها سوى بمزيد من البحث، وتجنيد العلم، وتوحد علماء العالم على هدف واحد بعيداً عن المتاجرات السياسية، وعدم اتخاذ أي قرارات إلا بعد دراستها جيداً، والبحث في عواقبها حتى لا يكون بعض صناع القرار أضحوكة بين رعاياهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"