«من تواضع لله رفعه»

مكارم الأخلاق
03:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. رشاد سالم *

التواضع هو أن تضع نفسك بحيث يجب لها أن توضع دون تكبر وافتخار ودون ذلة وهوان، فالمؤمن ليس متكبراً وليس ذليلاً.

قال تعالى في سورة الفرقان: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا».

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبوهريرة: «من تواضع لله درجة رفعه الله درجة» ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة، أيضاً: «ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً، وما من أحد تواضع لله إلا رفعه الله».

والتواضع من خلق المرسلين، يأمر الله جل جلاله حبيبه، صلى الله عليه وسلم، بالتواضع. قال تعالى في سورة الحجر: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ»، ويؤكده بقوله سبحانه في سورة الشعراء: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين».

والتواضع، أيضاً، زينة العلماء والكبراء، فأبو حنيفة النعمان، على الرغم مما كان له من ذيوع صيت ورأي ثاقب وفقه عظيم، فهو شيخ الأئمة وصاحب المذهب الذي اتبعه كثير من الناس، يضرب المثل في التواضع لما ذهب للحج وبعد ما فرغ من رمي الجمرة الكبرى جلس إلى حلاق ليحلق رأسه، يقول أبو حنيفة: تعلمت من حلاق بمكة خمسة أشياء من النسك: إذ أردت أن أحلق رأسي فسألته عن أجره فقال: لا تشارط على النسك فإن الحلق نسك، ثم يقول أبو حنيفة: فجلست إليه كيفما اتفق، فقال لي: اتجه إلى القبلة، فاتجهت إلى القبلة وأعطيته شق رأسي الأيسر، فقال لي: اعطني شق رأسك الأيمن، فقد كان النبي يحب التيامن في كل شيء فأعطيته شق رأسي الأيمن وجلست ساكتاً فقال لي: اذكر الله تعالى فإنك في نسك ففعلت.

وبعد ما انتهى الحلاق من عمله قمت لأنصرف فقال لي: صل ركعتين، ففعلت.

وهكذا نجد عظمة أبي حنيفة في تواضعه، كيف أنه لم يخجل من حكاية القصة للناس ضارباً لهم المثل بنفسه معلماً لهم كيف يكون التواضع.

ومن أمثلة التواضع في القرآن الكريم ما حكى عن سليمان، عليه السلام، الذي لم يكن نبياً فقط؛ بل كان ملكاً لم يحظ ملك في الوجود بمثل ملكه، علّم منطق الطير، وسخرت له الشياطين، وساد الإنس والجن جميعاً في زمانه وسبحت بتسبيحه الجبال والطيور، وسخرت له الريح.

وما استطال بهذه النعم على أحد من رعيته. وما حكى- عن يوسف، عليه السلام، فحين يتم له الملك وتبسط له الدنيا ويأتي بأبويه وإخوته إلى

رحابه يلجأ إلى ربه ضارعاً في أدب وتواضع كما في سورة يوسف: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ».

إن المسلم متواضع لين الجانب، سمح النفس، رقيق المشاعر، ذلك أنه في مقابل النصوص المهددة المتوعدة للمتكبرين والمتكبرات، يجد نصوصاً مرغبة حاضنة محببة بالتواضع وخفض الجناح، تعد كل من تواضع بالرفعة والعزة والسمو، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» رواه مسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» رواه مسلم، ويجد المسلم في شخصية الرسول الكريم مثالاً حياً فريداً في التواضع وخفض الجناح ولين الجانب وعفوية التبسط، وكرم الخلق، وسماحة النفس، حتى إنه كان إذا مر بالصبيان يلعبون وقف عليهم مسلّماً متبسطاً ممازحاً، لا يحجبه عن هذا التواضع العظيم مقام النبوة ولا جلال القيادة ولا رفعة المنزلة.

ويروي أنس رضي الله عنه من تواضع النبي، صلى الله عليه وسلم، أن الأَمة من إماء المدينة كانت تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت، يقضي لها حاجتها. رواه البخاري.

ويقدم تميم بن أسيد إلى المدينة ليسأل عن أحكام الإسلام، فلا يجد هذا الرجل الغريب الراغب في مقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الأول في الدولة الإسلامية، لا يجد أسواراً ولا حراساً ولا حجاباً، وإنما يرى الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب في الناس، فيتقدم إليه سائلاً مستفسراً، فيقبل عليه الرسول الكريم بكل بساطة وتواضع وحنو، ويجيبه على سؤاله.

ثم إن التكبر والاستعلاء والتشامخ في الدنيا يحرم صاحبه من نعيم الآخرة التي حرم الله نعيمها على المتكبرين والمتكبرات، وجعله للذين لا يريدون الاستعلاء والاستكبار في الأرض.

* مدير الجامعة القاسمية بالشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"