كيف سيتغير العالم؟

02:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

الأزمة الصحية والاقتصادية التي تلوح في الأفق وعلى نطاق واسع تهدد باضطرابات اجتماعية وسياسية في غير بلد وقارة.

حين يردد مؤرخ ودبلوماسي مخضرم مثل الأمريكي هنري كيسنجر أن «العالم بعد كورونا سوف يتغير إلى الأبد»، فإنه يمكن الإقرار مبدئياً بصحة هذا التوقع. فالعالم يعيش «أجواء حرب» بدون حرب عسكرية، وأمام عدو غير مرئي، والخسائر في الأرواح، والأضرار المروعة بالاقتصاد، تجعل العالم بالفعل يعيش أجواء حرب عالمية ثالثة!. وليس المقصود هنا إثارة الذعر، بل تسمية الأشياء بأسمائها. فحين تخسر الدولة العظمى أمريكا، نحو 39 مليون وظيفة، وحين تتهاطل التقارير عن نسب بطالة مرتفعة متوقعة وشبه مؤكدة في الدول الغنية التي توصف بمجموعة العشرين، أو بشمال العالم، فلنا أن نتخيل حجم الكارثة في دول أخرى أقل نمواً وأكثر اكتظاظاً. وفي الحالتين فإن الطبقات الوسطى العريضة والتي تشكل صمام الأمان الاقتصادي والاجتماعي وتالياً السياسي، مهددة بفقدان أسباب استقرارها، ومعها الشرائح الضعيفة في أدنى السلم الاجتماعي.

وحين تشكو دول مثل إيطاليا وإسبانيا من اهتزاز الرهان على الاتحاد الأوروبي في مجابهة شاملة للازمة الصحية مرفوقة بالأزمة المالية، فإن دولاً أخرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، سوف تكون مهددة بفقد ما اكتسبته طوال نحو نصف قرن من عوامل الحد الأدنى من الاستقرار المرفوق بالتقلبات. وإذ واجهت معظم دول العالم الأزمة الصحية الصعبة بصورة منفردة، وحققت نتائج متفاوتة في محاصرة الوباء إلا أن الأضرار الاقتصادية والاجتماعية تبقى ماثلة وغير قابلة للتهوين منها على أي نحو. ومع سيادة نموذج الاعتماد على الذات ومنح الأولوية للحاجات الداخلية الضاغطة، فإن هذا المنطق مرشح للتعميم والتوسع بعد زوال خطر الجائحة. فالأمن الصحي والغذائي سوف يتصدر أجندات الدول خلال عقد العشرينات من هذا القرن. وإذ يُقدّر للدول المتقدمة وذات الموارد الكافية أن تنجح في مواجهة هذا التحدي، إلا أن دولاً أخرى مهددة بصعوبات جمّة مرتقبة، وقد أطلق مؤخراً رئيس حكومة بلد عربي في المشرق التحذير من احتمال عدم تمكن مواطنيه من الحصول على الخبز خلال فترة غير بعيدة. وسيكون الأمر أشد صعوبة إذا ما اضطرت أعداد بلا حصر من العاملين في دول متقدمة على العودة إلى بلدانهم، وذلك نتيجة تضرر اقتصاديات تلك الدول بصورة غير مسبوقة إلا في كساد القرن الماضي الذي وصف بالكساد الكبير.

يضاف إلى ما تقدم أن الأزمة الصحية والاقتصادية التي تلوح في الأفق وعلى نطاق واسع تهدد باضطرابات اجتماعية وسياسية في غير بلد وقارة مع نهاية العالم الجاري وربما قبل ذلك. وهذه هي بعض التغييرات المرشحة للحدوث، فيما يبدو مستقبل الوضع الوبائي مبهما في عالمنا. وبالنظر إلى الأضرار الهائلة التي لحقت بعجلة الإنتاج في أغلبية القطاعات الاقتصادية، والحاجة إلى ضخ أموال في الداخل متى ما توافرت، فإن فرص تقديم منح وهبات للدول الفقيرة والأكثر تضرراً سوف تتقلص، وسوف توكل هذه المهمة إلى منظمات الأمم المتحدة.

ونظراً للضائقة المتوقعة في النصف الثاني من هذا العام والتي سوف تشتد وتيرتها، إذا لم يتم تطويق الوباء جنباً إلى جنب مع رفع تدريجي لإغلاق القطاعات الاقتصادية على نحو لا يهدد لا سمح الله بتوسيع دائرة تفشي المرض، إلا أن بعض القطاعات لن تعود للعمل بالوتيرة السابقة وسوف يكون الجهد منصباً على تدارك بعض الخسائر والأضرار، والقطاع السياحي بأذرعه المتعددة هو أوضح مثال على ذلك.

ومغزى كل ما تقدم أن العالم سوف يتغير حقاً، وأن أكثر من نصف دول العالم ستكون مدعوة لضمان تأمين الحاجيات الأساسية لشعوبها، بل إن الاستغراق في حل المشكلات الداخلية، الملحة، وافتقاد أطر جماعية للحلول، وانسداد الآفاق باستثناء نزر يسير، أمام العون الخارجي، من شأنه إثارة حساسيات بين بعض الدول ذات النزاعات التاريخية الموروثة بينها، بما يهدد باضطراب حبل الاستقرار والأمن في غير منطقة من عالمنا. إن السيولة التي اتسم بها النظام الدولي منذ بدء الألفية الثالثة، مرشحة للمزيد من من مظاهر الفوضى، إلا إذا قيّض لعالمنا أن يشهد ولادة قيادات دولية يعنيها حقاً أمر سلام البشرية وبقائها، وإطفاء بؤر التوتر وإقصاء شبح المجاعات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"