معايير القدرة على قيادة العالم

03:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاطف الغمري

المفاهيم الاستراتيجية الأمريكية تلقت ضربة طاحنة من التبعات الاقتصادية والسياسية لفيروس «كورونا».

يتفق كثير من المؤرخين على أن قدرة أية قوة كبرى على التمتع بوضع قيادة العالم، كانت تعتمد على عدة مزايا، هي ما تستحوذ عليه من الناتج الإجمالي العالمي، وقدرة غير مسبوقة في الثراء من الموارد الطبيعية، ومهارات تقنية عالية، وتفوق في الكشوف العلمية، وقدرة عسكرية؛ من حيث ضخامة وتطور التسلح بكافة نوعياته؛ لكن يبقى أن يكمل ذلك حتى تكون مؤهلة لقيادة العالم، نفوذ يتيح لها إدارة وتنسيق المواقف الدولية في مواجهة الأزمات العالمية والإقليمية.

على ضوء هذه المعاني المتفق عليها، فقد جذب انتباهي، دراسة مهمة لمطبوعة «فورين أفيرز» عن توافر هذين الجانبين اللذين يمنحان لدولة ما دور القيادة العالمية. وتقول: في عام 1956 حدث تدخل متهافت من بريطانيا في مصر، وهو ما أدى إلى تحلل الإمبراطورية البريطانية، ونهاية عصرها كقوة عالمية. عندئذ واجهت بريطانيا بيئة عالمية لا تتواءم معها، وبالمثل فإن على الولايات المتحدة أن تعترف وهي تواجه أزمة فيروس «كورونا»، بأنها إذا لم ترتقِ إلى مستوى القدرة على التصدي لهذه المحنة، فإن الوباء سيخلق لها وضعاً يماثل «سويس» أخرى بالنسبة لها.

أي أن اكتمال أدوات التعامل مع الوضع الحالي؛ يتطلب القدرة على إدارة الأزمة عالمياً، والتنسيق بين مواقف الدول في مواجهة الأزمة. وإذا كان للفيروس كحدث عالمي غير مسبوق تداعيات صحية، فإنه يصبح على المدى البعيد، حدثاً مكتمل الأبعاد السياسية والاستراتيجية التي يمكن أن تمس الوضع الدولي للولايات المتحدة، وقدرة أية مؤسسة لصنع القرار على التصرف إزاء وضع عالمي غير مألوف كفكر، وفلسفة، وعقيدة، وتراث، وأيضاً ما كان يشكل طبيعة خاصة للنظام السياسي الأمريكي.

وعلى سبيل المثال، فقد ظل مفهوم الهيمنة مسيطراً على الفكر السياسي الأمريكي، وهو ما أرست قواعده أجيال وراء أجيال، ساعدها على ذلك سيطرة أمريكية عالمية على

الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، واحتكار مركز إلهام القوى الناعمة.

صحيح أن مراكز صناعة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، كانت تتوزع على مدرستين، تتبنى كل منهما هدف الهيمنة؛ لكن مع اختلاف كل منهما عن الأخرى في طريق الوصول إلى هذا الهدف، وهما المدرسة المثالية التي تنادي بفرض سيادة أمريكا على العالم ولو بالقوة، وهو ما طبقته في حرب العراق عام 2003. والثانية المدرسة الواقعية التي تنادي بتحقيق الهيمنة النسبية وليست المطلقة، بوسائل

الإغراء المادي، ونفوذ القوى الناعمة، وتبادلية المصالح.

فإذا توقفنا أمام أحد النماذج وهو الرئيس باراك أوباما نجد أنه حدد مبدأه للسياسة الخارجية بقوله: إن أمريكا لم تعد تستطيع منفردة التصدي لتحديات أمنها القومي، أو حل النزاعات الدولية، إلا بمشاركة وتعاون الآخرين.

وإذا كان هذا المبدأ طبقاً لمفهومه المجرد، يعني أنه يقوم على تبادلية المصالح، واحترام سيادة وطبيعة نظام الدول الأخرى، فإنه في التطبيق العملي قد انحرف بقوة صارخة نحو مبدأ الهيمنة، وهو يستكمل ما سبق أن أطلقه سلفه جورج بوش من خطط نشر الفوضى، وتغيير الأنظمة، بتمكين جماعات بعينها من حكم دول منطقة الشرق الأوسط، ما دامت قد أبدت استعدادها للخضوع لمطالب الإدارة الأمريكية، مقابل تمكينها من حكم هذه الدول.

الآن، وحيث إن العلاقات مع دول العالم لم تعد تصلح لها المعايير التقليدية والقديمة، وحيث إن الولايات المتحدة، تفتقد القدرة على الإدارة الاستراتيجية للشأن العالمي الذي اقتحمت ساحته محنة وباء «كورونا»، وبعد أن اتفق كثير من الخبراء والمحللين الأمريكيين على أن المفاهيم القديمة التي كانت تحكم الفكر السياسي الأمريكي، بدت مترنحة أمام الأزمة، وأنه لابد لها من مفاهيم جديدة ومتغيرة، وهو ما يحتاج إلى فترة من الوقت ليتكون.

وكما جاء في تقييم للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية فإن المفاهيم الاستراتيجية الأمريكية، قد تلقت ضربة طاحنة، من التبعات الاقتصادية، والسياسية لفيروس «كورونا».

هنا، نحن أمام امتزاج بين رؤى هي نظرية في طبيعتها، ومواقف عملية لصنّاع القرار في بلادهم، وعموماً فإن مراكز الفكر التي استشهدت ببعضها، لم يكن عملها يقتصر على التحليل، ورصد الظواهر السياسية، واستخلاص رؤيتها منها؛ بل إنها ومن خلال التقابل بين وجهات النظر المختلفة، قد تنتهي إلى صياغة تصور يمثل أغلبية الآراء، ليكون توصية لصانع القرار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"