ألف شبح تطارد المؤلف

03:22 صباحا
قراءة 6 دقائق

يوسف أبولوز

(١)

لماذا يتوقف كاتب ما.. عن الكتابة، شاعراً أكان أم قاصّاً، أو روائياً مع الأخذ في الاعتبار أن الروائيين، عموماً، نادراً ما يتوقف أحدهم عن الكتابة بمعنى الغياب الكلي، والذهاب إلى الهامش الثقافي بل والحياتي أحياناً، وربما يعود عدم توقف الروائي إلى أن كتابة الرواية هي مشروع الكاتب الذي يخوض في هذا الفن السردي الذي يقوم على أكثر من منبع، فهناك المنبع التاريخي، وهناك الوثيقة التي تخدم الكتابة الروائية، وهناك المنبع التخيّلي أو المتخيّل السردي، وهناك المنبع الحكائي الشعبي، المنبع المكاني، أي الحيّز المكاني الذي تتحرك فيه شخصيات وأحداث ووقائع الرواية.. وهكذا، نلاحظ أن الروائي هو في حقيقته صاحب معمل أو مشغل للكتابة، إنه إذا كان كاتباً صاحب مشروع روائي فإنه لا يتوقف في هذه الحالة عن الكتابة، ذلك أن مشروعه يناديه، ويشحنه بالقوة والاستمرارية.

ليس معنى ذلك أن الشعراء ليس لديهم مشاريع أدبية كبرى لها منابع ومشاغل أي «معامل» ولها وعود، بل الشعراء الكبار العرب وغير العرب هم في حقيقتهم شعراء مشاريع أدبية كبرى، ولذلك، لا يتوقفون عن الكتابة، فلم يُعرف في سيرة بابلو نيرودا على سبيل المثال أنه قد توقف عاجزاً عن الكتابة أمام الورقة البيضاء، إنه صاحب مشروع شعري أدبي كوني إنساني، وبخاصة في كتابه الشعري المذهل «النشيد الشامل» و ظل عبدالوهاب البياتي على طريق الشعر من دون توقف يُذكر في حياته الأدبية، وظل مدفوعاً إلى الاستمرارية بالكتابة بعناصره الفنية والوجودية بدءاً من المنفى مروراً بفكرتي الحياة والموت، وانتهاء بفكرة الحب، وظل انسي الحاج شاعر الكلمات المبللة دائماً بالينابيع حتى في نثره.

الآن نعود إلى رأس هذه المادة متمثلاً في السؤال الموجز.. «.. لماذا يتوقف الشاعر أو القاص» عن الكتابة، لنمهّد خلال هذه الإجابة إلى رسم خريطة «المتوقفين عن الكتابة» من الشعراء والقصّاصين في الإمارات، وهي ظاهرة تستحق المعاينة، وربما تناولتها بعض الكتابات الحريصة والغيورة على ديمومة واستمرارية نهر الكتابة في الإمارات، وتناولت تلك الكتابات أسماء في حدّ ذاتها، ومع ذلك، وللأسف الشديد، فإن هذه الظاهرة الأدبية السلبية في الإمارات، لم تؤخذ دائماً على محمل الجدّية والحوار الثقافي المتبادل بين المتسائلين عن أسباب التوقف، وبين المتوقفين، واليوم توضع هذه الظاهرة تحت مجهر المعاينة الثقافية من جديد، ولكن بشكل أوسع يطمح إلى فتح باب حوار على مصراعيه كما يقولون.

يتوقف الكاتب عن الكتابة لأسباب عدة.. أولاً: قد يكون اقتنع من داخله أنه لا جدوى من الكتابة بالنسبة إليه، وأنه لم يخلق أصلاً ليكون شاعراً أو قاصاً، فهو يبدأ حياته الأدبية بعدد من النصوص التي قد تؤشر على ميلاد كاتب، بل، ويجري الاعتراف به ككاتب من جانب الصحافة الثقافية والمؤسسات العاملة في الشأن الثقافي، ولكنه هو من داخله يخضع دائماً إلى قلقه الوجودي الذي ينتصر عليه في النهاية، وهو أنه لا جدوى من الكتابة بالنسبة إليه، وأنه خلق ليكون تاجراً، أو طبيباً، أو عسكرياً، أو مزارعاً... إلا أنه لا يمكن أن يكون كاتباً أو أديباً، وهؤلاء المتوقفون منذ بداية حيواتهم الأدبية هم أصدق المتوقفين، وأكثرهم جرأة مع الذات .

يتوقف الكاتب عن الكتابة الأدبية بعد فترة طويلة من ممارسة الكتابة لأنه جَفّ أدبياً، ولم يعد يستطيع الإتيان بأي جديد أدبي يتجاوز تراثه السابق، وهذا النوع من المتوقفين هو أيضاً الأكثر صدقاً وشجاعة مع نفسه.

يتوقف الكاتب عن الكتابة إذا سيطرت عليه مهنة الصحافة مثلاً، أو أي مهنة أخرى قريبة من نشاط الكتابة، هناك من بدأ شاعراً مثلاً، ولكن عمله الجامعي أو الأكاديمي أغلق عليه باب الشعر، وهناك شعراء توقفوا عن الكتابة، لأنهم اكتشفوا ذوات كاتبة أخرى لهم وهؤلاء اشتغلوا في البحث التراثي أو الفولكلوري أو الأسطوري ، زكريا محمد، خزعل الماجدي، على سبيل المثال لا الحصر.

يتوقف الكاتب عن الكتابة جراء إحباط نفسي أو ثقافي، أو جراء هزيمة وجودية تسبّبها قضية وطنية، ويتوقف الكاتب عن الكتابة جرّاء عقاب ما.. أو تهديد ما، أو جرّاء مرض بيولوجي أو جسدي أو نفسي، وعلى كل حال، نعود ثانية إلى الكاتب الذي يصدر في أدبه وثقافته عن مشروع كبير، فهؤلاء، مرة ثانية، لا يتوقفون عن الكتابة تحت أقسى وأبشع الظروف: ظل أمل دنقل يكتب الشعر حتى آخر أيامه في سرير المرض، وسعد الله ونّوس حارب المرض بكتابة المسرح، أما ناظم حكمت فقد حورب في حقه القانوني بجواز سفر بلاده، وظل واقفاً يكتب.

(2)

إن تأمل جيل ثمانينات القرن العشرين من شعراء وقصّاصين في الإمارات ، يكشف لنا ببساطة، عمّن استمر في الكتابة من ذلك الوقت وحتى اليوم، ويكشف لنا أيضاً عمّن توقف سواءً من نهاية سبعينات القرن العشرين، والثمانينات، إلا أن الفترات التالية أي تلك الأسماء التي ظهرت في العقدين الماضيين... لا نستطيع الجزم بأنها بعضها توقف، وبعضها لم يتوقف.

إن المنصّات الثقافية الإلكترونية أو الرقمية أو الافتراضية دخلت على خط الكتابة، وهنا لا نستطيع الحكم على كاتب ما بأنه توقف أو لم يتوقف بالنظر إلى نتاجه الأدبي المكتوب على الورق، وهنا، تجدر الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن بعض كتّاب الثمانينات الذين هم أيضاً كتّاب التسعينات وبداية الألفية الثانية قد توجّهوا إلى النشر في المنصّات الإلكترونية، ولنا أن نستعيد كيف أن موقعاً إلكترونياً ثقافياً هو «جهة الشعر» أسسّه الشاعر البحريني قاسم حدّاد قبل نحو عقدين من الزمن كان منبراً إلكترونياً مفتوحاً للغالبية العظمى من الشعراء العرب، فهل نقول أن هؤلاء الكتاب الذين استخدموا منصات كهذه قد توقفوا عن الكتابة؟، هذا إذا اعتبرنا أن التوقف هنا، هو توقف عن الكتابة الورقية.. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإننا نظلم بعض الكتّاب الذين هم في حقيقتهم لم يتوقفوا عن الكتابة، بل توقفوا عن النشر سواءً في منابر ورقية أو منابر إلكترونية.

نعم، قد يكون هناك كتّاب من الثمانينات، وما بعدها، يكتبون يومياً، ولكنهم عزفوا عن النشر.

إن التوقف عن النشر يتخذ أحياناً هاجساً وجودياً، وأحياناً، يسجل الكاتب من خلال التوقف عن النشر موقفاً ثقافياً محدّداً تجاه مؤسسة ما، أو تجاه تيار ثقافي ما... أو تجاه حالة ثقافية عامة يجد نفسه غريباً في إطارها الاجتماعي والثقافي، فيتوقف عن النشر، ولكن في حقيقته لم يتوقف عن الكتابة.

(3)

من الأسماء القصصية الإماراتي، التي انسحبت كلياً من المشهد الثقافي المحلي، يشار دائماً إلى الكاتبة «سلمى مطر سيف» وهو اسمها المستعار، ومرة ثانية، من يدري؟،.. قد تكون سلمى وغيرها العشرات من القصاصات والشعراء والشاعرات يكتبون بصمت في عزلتهم وانكفائهم النفسي والوجودي، ولكنهم لا ينشرون.

شكّلت المجموعة القصصية «عشبة» لسلمى مطر سيف حالة إبداعية على درجة كبيرة من الأهمية بين كاتبات جيلها، ومن ذلك الجيل الراحلة مريم جمعة فرج.

اختفت سلمى تماماً من المشهد الثقافي، وتوجهت مريم جمعة فرج إلى الصحافة (الترجمة الثقافية )، وبالتالي انسحبت ثقافياً من المشهد الأدبي المحلي.

على مستوى القصة القصيرة لم يكتب عبدالله صقر إلا مجموعته الوحيدة «الخشبة» التي صدرت مرتين 1975، 1999، ولكن الرجل توقف تماماً عن أي نشاط أدبي وثقافي، وتوجه إلى النشاط الرياضي، وتحديداً كرة القدم.

في الثمانينات ظهرت أسماء قصصية أيضاً من بينها سعيد الحنكي الذي أمضى فترة طويلة من حياته بعيداً عن الساحة الثقافية، ولكنه، سوف يفاجئنا قبل عامين (2018) برواية أولى له صدرت بعنوان «تربيع أوّل»، وفي السنوات الأخيرة من عمره توقف ناصر جبران 1952-2017 (القاص والشاعر) عن الكتابة، ولكنه، فاجأ الساحة الثقافية بعد ذلك بروايته «سيح المهب»، وذلك في عام 2007.

من كتّاب القصة اللّامعين في الإمارات نموذجاً، الذين أكلتهما الصحافة : عبدالحميد أحمد، وناصر الظاهري، حيث لم يصدرا أي نتاج أدبي قصصي منذ سنوات طويلة.

يشار بتميّز عادة إلى تجربة ماجد بوشليبي القصصية والمسرحية، ولكن، ومنذ سنوات طويلة أيضاً لم يظهر قاصّاً أو مسرحياً، لكنه يظل علامة فارقة في الكتابة الإماراتية المبكّرة، خصوصاً، في المسرح.

ومرة ثانية، قد يكون هؤلاء يكتبون «ويخبّئون»، أو يكتبون و«ينتظرون».. لكنهم ابتعدوا نفسياً عن حالة النشر التي تعني الإشهار والضوء والمتابعة النقدية، هذا إن وجدت وما أكثر الذين يخشون النقد، ويتجنّبون تبعات الإشهار الأدبي وملاحقه ومفرداته التي تتطلب الصبر والجدل والعناء

حالات خاصة

على الجهة الثانية من «سردية» المتوقفين عن الكتابة نذهب هذه المرة إلى الشعر، والاسم الأبرز المتوقف عن الكتابة منذ سنوات طويلة هو عارف الخاجة.

شكّل عارف الخاجة حالة شعرية خاصّة به، موثوق بها، ومتفق عليها، فهو يكتب العمودي الخليلي، ويكتب التفعيلي وفي أواسط الثمانينات أوجد حراكاً حيوياً في الصحافة الثقافية «الزميلة البيان» قاد إلى ما يشبه المعارك الأدبية أو الجدل الثقافي وبخاصة بين الكلاسيكيين المتشدّدين والمتعصبين للثقافة الشعرية التقليدية وللثقافة التقليدية عموماً، وبين المنفتحين على الحداثة من الجيل الشعري الإماراتي الجديد بشكل خاص، غير أن ذلك كله انطفأ تماماً، وتوارى عارف الخاجة إلى هامش الصمت.

تعرف الساحة الشعرية الإماراتية شاعر قصيدة نثر هو مسعود أمر الله، الذي توقف وذهب إلى السينما وكان مرعي الحليان شاعر قصيدة نثر، توقف عن كتابتها وتوجه إلى المسرح تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً.

كتبت أمينة ذيبان قصيدة النثر في أواسط ثمانينات القرن العشرين، توقفت هي الأخرى، بخاصة بعدما سافرت خارج الإمارات لاستكمال دراستها الجامعية، ومنذ سنوات طويلة لم نقرأ للهنوف محمد، وإبراهيم الملّا، وخالد البدور، وثاني السويدي، وظاعن شاهين... .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"