كتّاب على قائمة التقاعد

03:40 صباحا
قراءة 7 دقائق
القاهرة: مدحت صفوت

هل حقاً يمكن للمبدع أن يعتزل الكتابة؟ أن يتوقف عن ممارسة التأليف بمحض إرادته؟ سؤال يبدو بعيداً بعض الشيء عن الطرح، دون أن يتخيل الكثيرون وجود «مبدع متقاعد» على غرار المحاسبين والمهندسين وغير ذلك من المهن.

في مجموعته القصصية «في قلب قلب البلد» كتب الروائي والقاص الأمريكي «وليام ه. جاس» على لسان أحد الشخوص، «أنا متقاعد في الحب»، وعلى الرغم من ذلك، ظل «جاس» نفسه يكتب حتى وفاته في عام 2017، وأصدر إحدى رواياته وهو في الثامنة والثمانين من عمره.

إن لم يستطع «وليام جاس» اعتزال الكتابة، على الرغم من أن أحد شخوصه اعتزل الغرام، فإن التنقيب عن المبدعين المعتزلين يكشف عن تاريخ مهمش ومنسي حافل باعتزال وتوقف الكُتاب عن إنتاج ونشر إبداعهم، ولظروف شتى ومتباينة ومتراوحة بين نضوب المعين الإبداعي، والخشية من التكرار، أو المرض أو الاستسلام لراحة التقاعد كفكرة مغرية للبعض.

قد يبدو غريباً أن يشير أحدهم على نفسه أو على شخص آخر ب«كاتب سابق»، باعتبار أن التوقف عن الكتابة تخلٍ عن «فعل الواجب»، فالكتابة، الأدبية تحديداً، فعل يحتمه الضمير الإبداعي، ومسألة ترتبط بوجود الإنسان الذي يمارسها، والانقطاع عنها يعني موته.

التوقف عن الكتابة والموت مترادفان مرتبطان في نظر كثير من الكتاب وأغلب القراء على السواء، وغالباً يحدث الانقطاع التام عن الكتابة بموت المؤلف، هنا يقدم الشاعر الأمريكي «سي كي وليام»- الذي ظل يكتب حتى وفاته في عام 2015 عن عمر يناهز الثمانين- قصيدته الشهيرة «كُتاب يكتبون الموت» التي يعتبرها البعض في الولايات المتحدة «عقيدة المؤلفين المسنين» ويقول فيها «فكر، اكتب، اكتب، فكر، فقط استمر في الجري بشكل أسرع ولن تلاحظ أنك ميت».

إذاً الكتابة فعل ديمومة بالنسبة لوجهة النظر السائدة، عمل شاق من أجل التمسك بالبقاء ومقاومة ضد الموت، أو عمل لا بد أن يستمر حتى مع الموت بقول «سي كي وليام» «على الرغم من هذا المرح للاستيقاظ، هذا ممتع أيضاً إذا لم تفعل ذلك، استمر في الموت، استمر، واكتب».

توبة القدامى

يمكن أن نتلمس تاريخ التقاعد من الكتابة، من خلال ما أعلنه الكتاب أنفسهم أو ما جرى سرده من خلال رواة التاريخ الأدبي والنقدي. الأمر الذي يتطلب التوقف أمام مصطلح التقاعد نفسه، وتاريخ تفعيل نظام نهاية الخدمة الوظيفية.

في مقالتها ب«التايمز» منذ أكثر من عشرين عاماً، أشارت الكاتبة الأمريكية ماري لو وايزمان، إلى أنه منذ العصر الحجري حتى بدايات العصر الحديث لم يعرف العالم «التقاعد» كعملية منظمة بقوانين وقواعد، فالكل يعمل حتى يحين أجله، الذي يحل عادة لأسباب غير طبيعية.

ومع القرن التاسع عشر، بدأت أوروبا في تنظيم عملية التقاعد، الأمر الذي انتقل إلى الولايات المتحدة كمنظومة متكاملة مع الثلاثينات من القرن العشرين، عندما كانت البلاد بحاجة إلى إفساح المجال للشباب من خلال تشجيع كبار السن على التقاعد مع ضمان توفير الحماية المالية سواء من الدولة أو من مساهماتهم السابقة.

في التراث العربي، يبدو أن هجرة الأدب أو التوقف عن الكتابة ترتبط بأسباب دينية، كان أشهرهم لبيد بن ربيعة، الذي غادر نظم الشعر في الإسلام، ليمنحه عمر بن عبد العزيز عطاء نظير ذلك، وتشير المرويات إلى أن عمراً أرسل إلى عامله بالكوفة: سل لبيداً ما أحدث من الشعر في الإسلام؟ ليجيب الأخير «أبدلني الله بالشعر سورتي البقرة وآل عمران»، فيزيد عمر بن عبد العزيز من عطائه للبيد.

عمر بن عبد العزيز، ذاته كان سبباً مرة أخرى في اعتزال كُثير عزة للشعر، حسبما ورد في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة، متفرغاً للعبادة.

تاريخ ضائع

ومن التراث العربي إلى التراث الغربي، ثمة توجه على توقف الشاعر والمسرحي الإنجليزي البارز وليم شكسبير عن الكتابة الدرامية؛ إذ لاحظ بعض المؤرخين الأدبيين عدم نسب أي عمل مكتوب لشكسبير آخر 3 سنوات من عمره، أي منذ عام 1613، وحتى وفاته 1616 أي بعد أن انتقل إلى «ستراتفورد» التي تقع في مقاطعة وركشير، فيما جادل آخرون بأنه ظل أكثر نشاطاً في التأليف، وأن فكرة التقاعد الكامل خاطئة ومغلوطة.

في القرن السابع عشر، كان من المحتمل أن يتوقف الأديب الإنجليزي جون ميلتون صاحب رائعة «الفردوس المفقود» إلى «التقاعد المبكر» عن الكتابة، بخاصة أنه عانى سلسلة من المآسي التي تدفع إلى الجنون، منها فقدان الابن الأصغر 1952 ومن بعده مباشرة الزوجة، ثم بعد تزوج ثانية تموت الزوجة ورضيعتها، لكنه ظل مثابراً على الكتابة حتى رحيله.

لغز

حديثاً، يعتني النقاد الغربيون بمحاولة كاتب أدب الرعب الأمريكي «ستيفن كينج» باعتزال الكتابة في سن مبكرة قبل أن يعود مجدداً ويستمر في تأليف الأعمال التي قيل إنها باعت 350 مليون نسخة، وقتها تساءل الناس عمّا كان يعنيه الكاتب المشهور للغاية بالتخلي عن الإبداع في منتصف العمر.

بيد أن المعتزل الأكبر في مضمار الأدب، هو مؤلف الرواية الشهيرة «الحارس في حقل الشوفان»، جيروم ديفيد سالينجر، وهو صاحب أشهر وأغرب وأطول اعتزال، ووصل به الحال إلى أن يقضي قرابة نصف القرن غير مبال بالعالم المحيط به، لا بالكتابة فحسب.

قرر سالينجر، أن يعتزل العالم منذ 1953 في قرية «كورليش» بولاية نيوهامشير، إلى أن رحل في عام 2010 تاركاً لغزاً وراء البقاء في منزل ريفي تحيط به جدران عالية تحرسها الكلاب، وقد تردد أن نفقاً من الإسمنت يربط بين منزله وغرفة الكتابة.

حتماً الأكثر إثارة بإعلان التقاعد كان الكاتب الأمريكي فيليب روث، الذي خرج في لقاء تلفزيوني يعلن «اعتزاله الإبداع» بعد أن سادت الصورة وتلاشت قيمة الكلمة الأدبية، أو برؤيته «الروايات تموت، سنشهد تلاشي الأدب لأن الشاشات قتلت القارئ».

ربما كل من ذكرناهم هنا في مقام الاعتزال لم يمثلوا حالات إعلامية أو أثاروا ضجة نقدية كما فعلها «روث»، فشهرة مؤلف رواية «وداعاً كولومبوس» طاغية ومكانته الأدبية تدفع النقاد إلى وضعه في مكانة بارزة وتقارنه بمشاهير الأدب مثل الروسي نيقولاي جوجول والتشيكي فرانز كافكا، فيقرر «روث»، أن يترك كل هذه الشهرة «لينعم بالحرية بعد أن ضجر من أسئلة الصحافة والصحفيين»، على حد قوله.

«ليست لدي الطاقة على تحمل الإحباط، أن تكتب يعني معايشة حالة إحباط يومي، دون أن أتكلم عن الإهانة» العبارة التي تبدو قاسية، ختم بها روث مسيرته الكتابية. سبب آخر يضاف لقائمة تبريراته وراء التقاعد، وهو رغبته في ألاّ يضيف كتباً متواضعة إلى مكتبة الرواية العالمية، خاصة مع شيوع اعتقاد تراجع مستوى الكتابة كلما هَرِمَ المؤلفون وطعنوا في العمر.

حين أعلن روث تقاعده، بدا الحدث «واقعة مفصلية» في تاريخ الأدب الغربي، يؤرخ بقبل وبعد اعتزال فيليب، الأمر الذي يدفع الكاتب المساهم وعضو هيئة تحرير «نيويوركر» إيان كراوتش إلى تخيل حفلات اعتزال للأدباء مستقبلًا على غرار نجوم الكرة، متخيلًا روائية تجلس بجوار وكيلها ومحررها وزوجها، أمامهم الميكروفونات، تشكر معجبيها وقراءها على كل دعمهم وتقول: «لقد كان الأمر صعباً لبعض الوقت، عندما كتبت رواية «الزومبي»، لكن شكراً على التمسك بي»، يتهدج صوتها قليلًا وهي تشكر معلمة اللغة الإنجليزية الأولى التي آمنت بها.

نماذج شهيرة

الروائي والكاتب الأمريكي بيل موريس، يتوقف أمام نماذج عدة بالفعل مارست التوقف عن الكتابة، منها الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي ولد منتصف القرن التاسع عشر، وتوقف عن كتابة الشعر مبكراً. ومن القرن العشرين تحل الروائية الأمريكية هاربر لي، التي توقفت بعد روايتها الشهيرة والوحيدة «أن تقتل عصفوراً محاكياً» 1960، وحازت بها جائزة «بوليتزر» الأدبية لمناقشتها قضية التفرقة العنصرية التي عاصرتها في طفولتها ببلدتها «مونروفيل» في ولاية «ألاباما»، ولم تفلح في أن تنهي روايتها الثانية لتتوقف عن الكتابة الإبداعية حتى وفاتها 2016 عن عمر يناهز التسعين عاماً.

ومن أشهر الكُتاب الذين اعتزلوا الكتابة، جبريل جارسيا ماركيز، الذي أعلن شقيقه أن الكاتب الكولومبي، الذي كان في منتصف الثمانينات من عمره، يعاني الخرف ولن يكتب مرة أخرى أبداً. ومن أمريكا اللاتينية إلى المجر، أعلن الكاتب إيمري كيرتيس مؤلف رواية «كائن بلا مصير» في 2012 اعتزاله الكتابة الأدبية بعد 10 سنوات من حصوله على نوبل في الآداب، وقبيل وفاته ب4 سنوات.

وعلى مقربة من توقيت توقف «كيرتيس»، أعلنت الروائية الكندية «أليس مونرو» وبعد أن حصدت نوبل أيضاً مبررة قرار توقفها عن الكتابة بقولها: «عندما تكون في سني ربما لا ترغب في أن تبقى وحيداً إلى الحد الذي يألفه الكُتّاب. يشبه الأمر أن يصير المرء اجتماعياً جداً، عند طرف الحياة غير المناسب».

الرمق الأخير

يبدو أن التقاعد أو التوقف عن الكتابة لأسباب نضوب المعين الإبداعي، وانقطاع الأفكار وتوقف الإلهام، أمر لا يمكن ربطه بعمر معين أو مرحلة كتابية محددة كما هو الحال عند الرياضيين مثلًا.

فلاعبو الكرة هم الأكثر وضوحاً بالنسبة لتنظيم وتقنين الاعتزال «عمرياً»، وغالباً ما يكونون في سن مبكرة، بعد أن يكونوا قد كسبوا ذروة شهرتهم وأرباحهم المادية في بدايات حياتهم، ومن ثم لن يهتم الجمهور بلاعب خمسيني يركل الكرة في استاد ما.

المؤلفون والمبدعون لهم سياق آخر، فعدد متابعيهم ومحبيهم أقل، وعائدهم المادي من الكتابة يكاد يكون منعدماً، لكن من المهم هنا أن نشير إلى أن مكانة منتجهم لا تقل مع العمر، حسبما هو الحال مع الرياضيين؛ بل في كثير من الحالات تكتسب الأعمال قيمة مضافة من مرور الزمن.

نقدياً، لا يوجد من يزعم أن ثمة سناً أو مرحلة عمرية ما هي الأكثر إنتاجية أو الأفضل في الكتابة، فالبعض يقدم أفضل أعماله في بواكير حياته، وفريق ثانٍ في منتصف العمر، وآخر يظل يؤلف حتى اللحظات الأخيرة.

عربياً، نجد أن فريقاً نقدياً لا يستهان به يرى في آخر دواوين الشاعر الراحل أمل دنقل «أوراق الغرفة 8» أفضل كتاباته على الإطلاق، على الرغم من تأليفه في لحظات اشتداد المرض في آخر أيامه.

ومن الشعر إلى السرد، سبق أن توقف الروائي المصري نجيب محفوظ 7 سنوات عن الكتابة بعد أن انتهى من الثلاثية عام 1952 حتى عام 1959، وفي حواره مع جمال الغيطاني المنشور في كتاب «نجيب محفوظ يتذكر»، كشف صاحب نوبل، عن أنه مر بأزمة مالية بعد زواجه، وبات مسؤولًا عن 3 أسر هي زوجته ووالدته وشقيقته المتوفى زوجها، وترك الرواية وعمل سيناريست كون العائد المادي أفضل من مردود الكتابة الروائية، قبل أن يعود للسرد بروايته «أولاد حارتنا».

محفوظ نفسه، يمكن أن يتخذ مثالًا على الكتابة حتى الرمق الأخير، فعلى الرغم من تعرضه لحادث اغتيال في أكتوبر 1995 بالطعن وهو في الرابعة والثمانين من عمره، فقد واصل الكتابة حتى أصدر مجموعته «أحلام فترة النقاهة» 2004 وهو في الثانية والتسعين من عمره وقبل رحيله في عام 2006 بعامين فقط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"