من هم الواهمون الخياليون؟

03:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. علي محمد فخرو

هناك فرق كبير بين ممارسة النقاش أو الجدال وممارسة المماحكة. الممارسة الأولى تعتمد المنطق والأخذ والعطاء والاحترام المتبادل في التعبير عن الرأي، أما الممارسة الثانية فتعتمد النرجسية التي لا تعترف بحق الآخر، والخصومة الجارحة في الاختلاف وفي التعابير. الأولى محاولة للاقتراب من الحقيقة وللتقدم الفكري، والثانية هي إعلان حرب من أجل الانتصار العبثي. من هنا اعتبر البعض المماحكة أسوأ أنواع المحادثة بين البشر.
مناسبة التذكير بتلك البدهيات هي التعابير التي يستعملها بعض المثقفين العرب بحق من يخالفونهم الرأي في المجال الفكري السياسي وتفعيل أيديولوجياته المتنوعة.
فمنذ حدوث الانتكاسات والهزائم في الحياة السياسية العربية، وفي طول الوطن العربي وعرضه، ووصولها إلى القمم المأساوية الكارثية التي وصلت إليها أوضاع الأمة عبر السنوات العشر الماضية، اقتنعت والتزمت مجموعة من أولئك المثقفين العرب ليس بالتخلي عن عقيدتها القومية العروبية الوحدوية فقط، وإنما أيضاً، وبصورة غريبة بالإصرار على الدخول في مماحكات لفظية مهينة مع كل من بقي متمسكاً بتلك العقيدة القومية، فكراً وآمالاً وأحلاماً مشروعة، وعلى الأخص لمبدأ ضرورة قيام نوع من الوحدة العربية كطريق مضمون يؤدي إلى نهوض الأمة العربية من تخلّفها ومهانتها وضعفها الحالي.
من التعابير المهينة التي يستعملها بعض المثقفين ضد من يخالفونهم الرأي، وصفهم بأنهم واهمون يمارسون أحلاماً وخيالاً طفولياً يتناقض مع واقع الحياة السياسية العربية. وهم بذلك، بقصد أو من دون قصد، يرددون نفس التعابير التي تستعملها الدوائرالإعلامية الاستعمارية - الصهيونية في محاربتها الدائمة لأي خطوة وحدوية عربية ولأي شعار أو تسمية وحدوية تساهم في بناء هوية عروبية مشتركة بين مكونات وجماعات الأرض العربية. المطلوب لدى تلك الدوائر هو المسح من الذاكرة الجمعية العربية تعابير من مثل الوطن العربي ليحل محله الشرق الأوسط، أو المغرب العربي ليحل محله الشمال الإفريقي، أو الصراع العربي - الصهيوني الوجودي ليحل محلُه النزاع «الإسرائيلي» - الفلسطيني، إلخ.. فلا شيء يرعب تلك الدوائر أكثر من توحد هذه الأمة في كيان قوي واحد قادر على مجابهة أعدائه، ومتمكن من المحافظة على استقلاله الوطني والقومي، ويحمل في جوفه إمكانات التنمية الإنسانية الشاملة.
لنعد إلى تلك القلة من المثقفين العرب لنؤكد أننا لسنا ضد حريتهم في اختيار العقيدة الأيديولوجية التي تروق لهم، حتى لو خالفناهم الرأي، وناقشنا ذلك الرأي معهم بموضوعية وهدوء، ومن دون مماحكات لفظية؛ ولذلك لنطرح على أنفسنا جميعاً بعض الأسئلة.
في موضوع الأمن العربي: هل هناك أي قطر عربي في الوقت الحاضر غير مهدد في أمنه، إما من دولة غير عربية في إقليم الشرق الأوسط من مثل الكيان الصهيوني التوسعي القائل علناً إنه يهدف إلى أن يكون القوة المهيمنة على كل دول الشرق الأوسط وعلى الأخص الدول العربية، وإما من مثل إيران التي تفاخر بأنها تسيطر على أربع عواصم عربية، وإما من مثل تركيا التي تخيط وتبيط في الشمال الشرقي السوري والشمال العراقي وفي ليبيا مؤخراً، وإما حتى من دول خارجية طامعة في ثرواته ومواقعه الجيوسياسية من مثل أمريكا أو روسيا ؟
في هذه الحالة من هم الواهمون والخياليون الأطفال الذين يصرون على إبقاء كل قطر عربي، في ضعفه ومحدودية إمكاناته العسكرية، مسؤولاً لوحده عن أمنه المهدد؟، ومن هم الذين ينادون بنظام أمني عربي واحد مشترك، غير مظهري، يقف في وجه كل تلك الأخطاء ويضمن الاستقلال والأمن الوطني والقومي؟
لنطرح سؤالاً آخر: في حقل بناء تنمية إنسانية شاملة، وفي قلبها الموضوع الاقتصادي والسوق المشتركة والتكامل العلمي والتكنولوجي والمعرفي، هل يستطيع أي قطر عربي، مهما كان حجمه أو غناه الرّيعي، أن يستغني عن ضرورة وجود كتلة اقتصادية مترابطة ومتناغمة ومتكاملة وسوق عربية كبيرة لأربعمئة مليون من البشر؟ وهل يستطيع أي قطر الانتقال إلى اقتصاد إنتاجي حديث لا يصنع البضائع الاستهلاكية فقط وإنما أيضاً يقوم بالتصنيع العالي المنتج للآلات والتجهيزات التي بدورها تنتج البضائع الاستهلاكية الضرورية، والذي بدوره يحتاج إلى مراكز بحثية كبيرة متخصصة ومتناغمة في إجراء البحوث العلمية والتكنولوجية التي تغني عن الاعتماد على الخارج والاستمرار في تمثيلية شراء العلم والتكنولوجيا من الخارج واستيراد القوة العاملة الفنيّة من الخارج أيضاً... هل يستطيع أي قطر عربي أن يقوم بكل ذلك لوحده ؟ أليس لنا في السوق الأوروبية المشتركة مثالاً يحتذى من قبل العرب؟
هنا أيضاً، من هم الواهمون الخياليون الأطفال؟ ومن هم العاقلون الذين يدرسون الواقع ويقترحون الحلول العربية الذاتية وليس الحلول المعتمدة على موائد الخارج غير الموثوقة من جهة وغير المضمونة في الاستمرار من جهة أخرى؟
أوردنا المثلين، وهناك العشرات من الأمثلة الأخرى، لنقول لنا جميعاً: دعنا من المماحكات والعنتريات السياسية العبثية، ولنمارس النقاش الهادئ الرصين، خصوصاً بعد أن ساهمت تلك المماحكات بين المثقفين في خلق أجواء توترية وتلاسنات حقيرة مفرقة في شبكات التواصل الاجتماعي العربي، وهو ما تريده وتخطط له دوماً دوائر الاستخبارات الاستعمارية والصهيونية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"