بعد أن خالط الإيمان قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنار سبيلهم وعرفوا عظمة الإسلام، انكبوا ينهلون من القرآن الكريم: ذلك المعين الذي لا ينضب بعد أن رأوا فيه المعجزة الكبرى والهداية العظمى وامتلأت قلوبهم حباً لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فتفانوا في الدفاع عن مبادئهم وحماية قائدهم ومعلمهم، حتى إن الرجل منهم ليفديه بماله ودمه وولده، وتحولت جميع قواهم الفطرية، وفضائلهم الطبيعية، إلى توطيد دعائم الدين وتحصيل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين»: كان الصحابة يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم آيات معدودات إلى جانب الأحاديث النبوية: يتفهمون معناها، ويتعلمون فقهها، ويطبقونها على أنفسهم، ثم يحفظون غيرها، وفي ذلك يقول أبو عبد الرحمن السلمي: «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً».
مجالس الإيمان
وكان بعض الصحابة يقيم عند الرسول صلى الله عليه وسلم يتعلم أحكام الإسلام وعباداته، ثم يعود إلى أهله وقومه يعلمهم ويفقههم، ومن هذا ما أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقاً رحيماً، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم».
وكان الصحابة يحرصون على حضور مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصاً شديداً، إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعيشية من الرعاية والتجارة وغيرهما، وقد يعسر على بعضهم الحضور، فيتناوبون مجالسه عليه الصلاة والسلام، كما كان يفعل عمر رضي الله عنه، قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً، وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره. وإذا نزل فعل مثل ذلك».
«لا ندري ما الكذب»
ويقول البراء بن عازب الأوسي رضي الله عنه: «ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه» وفي رواية عنه: «ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذٍ، فيحدث الشاهد الغائب».
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «.. ليس كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه (منه) ولكن كان يحدث بعضنا بعضاً ولا يتهم بعضنا بعضاً». وفي رواية عن قتادة أن أنساً حدث بحديث فقال له رجل: أسمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم. أو حدثني من لم يكذب والله ما كنا نكذب ولا كنا ندري ما الكذب.
وكان الصحابة يتذاكرون دائماً ما يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنس بن مالك: «كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه».
مشاهد نبوية
وإلى جانب هذه المجالس، كان الصحابة يتلقون السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه يمكن حصرها فيما يأتي: حوادث كانت تقع للرسول نفسه، فيبين حكمها، وينتشر هذا الحكم بين المسلمين.
مثال ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مر برجل يبيع طعاماً فسأله كيف تبيع؟ فأخبره، فأوحي إليه أدخل يدك فيه، فأدخل يده، فإذا هو مبلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من غش».
وقد يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسمع صحابياً يخطئ، فيصحح له خطأه، ويرشده، من ذلك ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى رجلاً توضأ للصلاة، فترك موضع ظفر على ظهر قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» فرجع فتوضأ ثم صلى.
ومن ذلك ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب: اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون».
عوامل حفظ السنة
ويذكر الأمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتاب «مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة» ، أن هناك ثلاثة عوامل أساسية تضامنت وتضافرت في سبيل حفظ السنة المشرفة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه العوامل هي: شخصية الرسول من حيث هو مرب ومعلم، وفوق هذا، وأكثر من هذا من حيث هو رسول رب العالمين، والسنة من حيث مادتها، والصحابة وهم الطلاب الذين تلقوا السنة وشاركوا في تطبيقها، وتجاوبوا مع المعلم الأول والمادة مخلصين، بقلوب عظيمة انطوت على رغبة ملحة، وإرادة قوية في اتباع ما به يتم إيمانهم، ويقطع صلتهم بما كانوا فيه من ضلال. كل ذلك كان له الأثر الكبير في حفظ الصحابة للسنة دقيقها وجليلها، ثم نقلها إلى التابعين الذين نقلوها إلى من بعدهم طبقاً لما قاله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم».
ويمكننا أن نقول بكل ثقة: إن السنة في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت محفوظة عند الصحابة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم، وإن كان نصيب كل صحابي منها يختلف عن نصيب الآخر، فمنهم المكثر من حفظها، ومنهم المقل، ومنهم المتوسط في ذلك. ومن ثم نستطيع تأكيد أنهم قد أحاطوا بالسنة، وتكفلوا بنقلها إلى التابعين.