أمريكا تعلن الحرب على «الجنائية» الدولية

02:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد شوقي عبد العال *

في أحدث هجماته على المنظمات والاتفاقات الدولية، فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الخميس الحادي عشر من يونيو/حزيران الجاري، عقوبات اقتصادية على موظفي المحكمة الجنائية الدولية، الضالعين في التحقيق في ارتكاب القوات الأمريكية جرائم حرب محتملة في أفغانستان.
جاء ذلك بعدما أعطت المحكمة الجنائية الدولية، في مارس/ آذار الماضي، الضوء الأخضر للتحقيق في جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية محتملة في أفغانستان بين عامي 2003 و2014 بما في ذلك جرائم يقول المدعون فيها: إن القوات الأمريكية وعناصر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هم الذين ارتكبوها.

هجوم على «الجنائية»

وقد انتقدت دول ومنظمات حكومية وغير حكومية عدة هذا القرار؛ حيث عبر الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي عن «قلق بالغ» من هذه الخطوة، قائلاً: إن «المحكمة كانت تلعب دوراً أساسياً في تحقيق العدالة الدولية ومعالجة أخطر جرائم الحرب». واعتبرت فرنسا فرض عقوبات على موظفين بالمحكمة «هجوماً» على الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، داعية الإدارة الأمريكية للتخلي عن هذه الإجراءات. وذهب بيان منظمة «هيومن رايتس ووتش» إلى القول إن «هذا الاعتداء على المحكمة الجنائية الدولية هو محاولة لمنع ضحايا الجرائم الخطرة، سواء في أفغانستان أو «إسرائيل» أو فلسطين من إبصار العدالة».
والحق أن موقف إدارة ترامب المتعنت من المحكمة الجنائية الدولية هذا ليس إلا امتداداً للسياسة الأمريكية من المحكمة منذ لحظة إنشائها؛ إذ إنه على الرغم من المجهود الذي قام به الوفد الأمريكي لمواءمة النظام الأساسي لروما الذي أنشأ المحكمة مع وجهات النظر الأمريكية، وعلى الرغم من توقيع الرئيس بيل كلينتون على النظام الأساسي في عام 2000، فإن الولايات المتحدة قد امتنعت تماماً عن التصديق على الاتفاقية.

مواقف معادية

وكانت الولايات المتحدة، قد أبدت موقفاً معادياً لفكرة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية مع انعقاد مؤتمر روما لعام 1998 الذي تم خلاله إقرار المعاهدة المُنشئة للمحكمة؛ إذ كانت إحدى سبع دول صوتت ضد الاتفاقية في هذا المؤتمر، وقد استمرت واشنطن في رفضها التوقيع على هذه الاتفاقية، مبررة ذلك بما اعتبرته عيوباً في النظام الأساسي للمحكمة؛ أهمها أنه لا يوفر الحماية المنصوص عليها في الدستور الأمريكي للمواطنين الأمريكيين، كما أن طبيعة الدور العالمي الذي تقوم به الولايات المتحدة، وإسهامها الكبير في عمليات حفظ السلام عبر مشاركة قوات أمريكية في كثير جداً من هذه العمليات، يجعلها تعمل في أحيان كثيرة، في ظل درجة عالية من المخاطر التي لا تتحملها أية دولة أخرى على مستوى العالم، وبالتالي فإنه يتعين ألا يخضع جنودها بأي حال لاختصاص هذه المحكمة لأن هذا يحد - من وجهة النظر الأمريكية - من قدرتها على التدخل العسكري؛ للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، ومن ثم فإنها - أي الولايات المتحدة - تفضل اللجوء إلى محاكم خاصة تنشأ بموجب قرار من مجلس الأمن على غرار محكمتي جرائم الحرب في كل من يوغسلافيا السابقة ورواندا بدلاً من اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وفي مواجهة الحجج التي أثارها فقهاء القانون الدولي للرد على الدعاوى والاعتراضات الأمريكية في هذا الصدد، والتي ليس هنا محل الدخول فيها، اتجهت الولايات المتحدة نحو التوقيع على اتفاقية روما في اللحظات الأخيرة من المهلة المقررة لذلك، وهي الحادي والثلاثين من ديسمبر 2000، غير أنها عادت في سابقة فجة تدل على مدى استهانتها بقواعد القانون الدولي وبالمنظمات القائمة على إنفاذه، مع وصول الرئيس جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، لتعلن أنها قررت أن تنسحب كلية من عضوية المحكمة الجنائية الدولية، وأنها تسحب توقيعها الذي سبق أن قدمته، وليعلن وزير خارجيتها كولين باول أن بلاده لم تعد ملتزمة بالمبادئ، التي أقرها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

التفاف على صلاحيات المحكمة

ليس هذا فحسب؛ بل إن الولايات المتحدة قد استمرت في نهجها المعارض للمحكمة ولصلاحياتها، مبلورة رفضها في صورة مجموعة من الإجراءات، هدفت من خلالها إلى عرقلة عمل المحكمة، أو تحييد صلاحيتها على الأقل في مواجهة المواطنين الأمريكيين، فاعتمدت على نص المادة التاسعة والثمانين من النظام الأساسي للمحكمة، والقاضي بأن الاتفاقات الثنائية تطبق عوضاً عن نصوص هذا النظام في حالة إدانة أي مواطن من مواطني الدولتين المتواجد في أراضي الدولة الأخرى. وفي هذا الإطار قامت الولايات المتحدة ببذل جهود مكثفة؛ لتوقيع اتفاقات حصانة ثنائية مع أكبر عدد ممكن من الدول التي صدقت على النظام الأساسي للمحكمة، فيما اعتبره المراقبون محاولة صريحة للالتفاف على صلاحيات المحكمة، وقد وقعت بالفعل معاهدات من هذا القبيل مع عدد كبير من الدول. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن الولايات المتحدة لجأت في هذا السياق إلى التهديد بقطع مساعداتها العسكرية عن الدول التي ترفض التوقيع على هذه المعاهدات؛ وذلك في ضوء ما قام به الكونجرس الأمريكي عام 2002، وبعد شهر واحد من دخول ميثاق روما حيز النفاذ، من إصدار قانون بحماية موظفي الحكومة الأمريكية والجيش الأمريكي في الخارج، الذي يقضي بقطع المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة عن الدول التي تقر النظام الأساسي للمحكمة، وترفض التوقيع على اتفاقات الحصانة هذه.

اتجاه عدائي ثابت

ولا شك أن هذا الموقف الأمريكي المتصلب إزاء المحكمة الجنائية الدولية، أصبح يعبر عن اتجاه ثابت في الموقف الأمريكي إزاء القانون الدولي العام، وقد ازداد هذا التوجه قوة ورسوخاً في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب؛ حيث أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تكتفي بالخروج على أحكام القانون الدولي، واعتماد المعايير المزدوجة في تطبيق أحكامه؛ لكنها أصبحت تعمل في إطار خطة منهجية تستهدف زعزعة بعض ثوابت القانون الدولي العام وأسسه الراسخة؛ وذلك بهدف صياغة قواعد قانونية دولية، تراها أدنى إلى حماية المصالح الأمريكية، وتحقيق الأهداف التي تسعى إلى فرضها على العالم.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"