أداة البصيرة

02:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
 القاهرة: مدحت صفوت

في الوقت الذي تعكس فيه المرايا فيزيائياً، الضوء المسلط على الأجساد والأشياء في هيئة صور، وتتيح رؤية العالم من جوانب عدة، فإن المرايا، وعلى المستوى الرمزي، ترتبط بالضوء، والعاملان يرتبطان بالوعي، والحكمة، ليصبح الرمز انعكاساً للحقيقة، وللواقع كما هو.

وفي ما يبدو، يختلف الأمر في الدراسات النفسية، فغالباً ما تنقلب رمزية المرآة وتتغير كلية، سواء عن الواقع الفيزيائي، أو البُعد الرمزي، إذ تشير المرايا سيكولوجياً، إلى العتبة بين العقل الواعي، والعقل اللاواعي، ومن خلال النظر إليها، قد ينظر المرء إلى أعماق وعيه غير الظاهر، ومن ثمّ تفيد صور المرايا كثيراً في رصد عمليات التفكير الواعي، واللاوعي، على السواء.

مثل كثير من الرموز أحاطت بها الكتابات الأدبية، حلّت المرآة رمزاً أساسياً في الإنتاج الإبداعي، سواء كان نصوصاً لغوية، أو أعمالًا فنية تشكيلية، أو تصويرية، كفن السينما، وغيرها، وتنوعت دلالات المرايا، وتباينت بناء على رؤية كل مبدع، وأدوات تشكيله.

والعلاقة بين الأدب والمرايا قديمة قِدم الطرفين، ففي الوقت الذي يرتبط فيه تاريخ الأدب بالتاريخ البشري، تبدو المرايا حديثة قياساً إلى الأدب، خاصة في شكلها الزجاجي الحديث، إذ جرى اختراع هذا الشكل في أوروبا منذ نحو 200 عام.

وفي عام 1835 نجح الكيميائي الألماني جوستوس فون ليبيج، في تطوير طريقة لاستخدام طبقة رقيقة من الفضة المعدنية على جانب واحد من لوح زجاجي شفاف، قبل أن يجري تحسينها فيما بعد، إلا أن تاريخ المرايا على مواد أخرى يرجع إلى 3 آلاف عام قبل الميلاد، حين ابتكر سكان بلاد النهرين مرآة من النحاس المصقول.

معرفة موسوعية

أما بالنسبة إلى الأدب، فلم يتوقف الأمر على الاستفادة من المرآة، كأداة انعكاس، أو رمز يمكن توظيفه، وإنما توطدت العلاقة حتى عرفت البشرية ما يسمى ب«أدب المرايا»، وهو توجه انتشر في أوروبا خلال العصور الوسطى، خاصة بين القرنين الثاني عشر، والسادس عشر، ونتجت عنه مؤلفات استلهمت من الرغبة في جمع المعرفة الموسوعية في عمل واحد.

وعملت مؤلفات المرآة التي أنتجت في الفترة المشار إليها، على تقديم كتابات استقصائية، كما في مؤلف «مرآة الخيمياء» لروجر باكون، أو «مرآة الخلاص البشري» الذي كتبه لودولف أوف ساكسوني في القرن الرابع عشر، و«مرآة الحمقى» لنيجل دو لونجشامب، و«مرآة الكنيسة» لأدموند ريتش.

واشتقت عناوين مؤلفات هذه الفترة من المرآة السحرية، التي تعكس البعيد والقريب، التي يعتقد أنها بين الكنوز الأسطورية المملوكة ل«الكاهن يوحنا»، ومدفونة في مكان ما في الشرق، ويمكن من خلالها رؤية ما يخفى على العيون، الأمر الذي جعلهم يعتقدون أن رؤيا يوحنا كُتبت من خلال النظر في هذه المرآة السحرية.

من فاوست إلى بلاث

ومن أدب المرايا إلى «كتاب فاوست»، وهو أيضاً نموذج أدبي على استعمال المرآة السحرية، وقتما يصطحب فاوست ميفستوفيليس، أحد الشياطين السبعة في القرون الوسطى، إلى عقر الساحرة، ليفتتن بالمرايا، وعلى نقيض مرآة النرجسية، لا يرى فاوست انعكاساً مباشراً لذاته، إنما يرى انعكاساً لا شعورياً للصفات التي يحبها، وإن فقد في النهاية حياته جراء الاتفاق الذي أبرمه مع ميفستوفيليس الخاص بتلبية كل طلبات فاوست، وتحقيق طموحه العلمي، مقابل أن يهبه الأخير روحه بعد أربعة وعشرين عاماً. في المرآة يرى فاوست شابة جميلة يرغب فيها، ويعجب بها، إنها الحياة التي يسعى إليها بقوة لإعادة اكتشاف الفرح.

وحديثاً، تبدو قصيدة الشاعرة والروائية الأمريكية سيلفيا بلاث الشهيرة «مرآة»، والمترجمة بعناوين مختلفة، واحدة من الأمثلة الشهيرة على الاستخدام الرمزي للمرايا، التي تصف من خلالها حياة شابة تكبر، وهي تنظر إلى مرآتها.

في قصيدة بلاث، تحل الأمور على عكس ما تبدو به في كتابات كثير من النساء، أو الكتابة النسائية التقليدية عن المرايا، سواء للزينة، أو لانعكاس الرجل، الإشارة الدالة على الرغبة اللاواعية في ضمان الرجولة، التي قد تنعكس عليها صور النساء أنفسهن، بيّد أن القصيدة تبدو ساحة مفتوحة للمناقشة، وتغدو المرآة أشبه بمرآة يوحنا، فترى الشاعرة حياتها المستقبلية منعكسة عليها، وتغدو المرآة أداة لكشف الذات.

توظيفات عربية

عربياً، يزخر الأدب العربي بالعديد من المؤلفات، التي وظفت المرآة في متن العمل، أو استخدمت المفردة في العنوان، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى «مرايا نجيب محفوظ»، ذلك النص الحائر في جنسه الأدبي، الذي يتناول فيه عدداً من الشخوص الذين قابلهم، وعايشهم في مشواره الوظيفي، فتنعكس داخل النص صور المدير، والوزير، والساعي، وغيرهم من الشخصيات الوظيفية، التي يوظفها أديب «نوبل» في تصوير جانب من المجتمع.

وجدير بالإشارة هنا، أن أشهر الكتب العربية الحديثة التي حملت مفردة مرآة، أو مرايا، كانت مؤلفات نقدية، ودخلت فيما بينها سجالاً واسعاً، فجابر عصفور يخصص «المرايا المتجاورة»، للتعرف إلى طبيعة الفكر النقدي عند طه حسين. أما عبد العزيز حمودة فألف المرايا المحدّبة، والمرايا المقعّرة، وجاء متن الكتابين للتدليل على العنوان الذي اختاره المؤلف، وفي مراحل مبكرة من التأليف كما يذكر حمودة نفسه، ففي «المرايا المحدبة»، ضخّم ما رآه عيوباً في الكتابات الحداثية، وما بعدها، وفي «المرايا المقعرة»، يكاد يكون قد تفّه المشروع الغربي لمصلحة «مشروعه الخاص».

وفي الكتابة القصصية العربية الحديثة، يكاد يكون من الصعب التوقف أمام نماذج توظيف المرآة كافة، فلا نذكر أديباً إلا وحلت المرآة بشكلها الحقيقي، أو بدلالاتها الرمزية في نص من نصوصه، ومن هذا الفيض، يمكن التوقف أمام نص من أحدث النصوص الموظفة لرمزية المرايا للكاتبة نهى صبحي، التي حصلت على جائزة أفضل كتاب أدبي في معرض القاهرة للكتاب 2020.

في قصة «وجوه على لافتة زجاجية»، الواردة ضمن مجموعة «الخالية»، الصادرة العام الجاري، تتوقف صبية عمرها 19 عاماً، أمام متجر والدها تشاهد الشارع عبر انعكاسات تسقط على لافتة المحل الزجاجية، وتتحول إلى ما يشبه شريط السينما الذي يعرض قصصاً متداخلة ومركبة.

وأمام شريط الأحداث المنعكس على زجاج اللافتة، تتذكر الصبية ماضياً رحلت فيه الأم، وخلّفت بدلاً منها زوجة أب، وتجلس الفتاة على كرسيها الأعرج الذي كُسرت رجله أثناء حركة بهلوانية في الطفولة، ورغم تعقد الأحداث وتشابكها، يطل الكرسي المنعكسة صورته كرمز لمملكة الفتاة الخاصة، التي تؤسسها بديلة عن العالم المملوء بالعنف، والقسوة، والكراهية.

ومثلما كانت مرآة الأمريكية سيلفيا بلاث، دالة على استشراف المستقبل، تحل مرآة نهى صبحي، كاشفة لما قد يحدث أيضاً في المستقبل، وتكمن صورة فتاة بملابس ممزقة جراء حالة العنف المستمرة بالشارع، في إشارة إلى ما قد ينتظر الصبية البائسة من غد، قبل أن يصل العنف ذاته إلى المرآة التي تمثل منفذ الرؤية بالنسبة إلى الصبية، فتتبعثر إلى شظايا، وتظهر زوجة الأب لتسرق الكرسي، فتنعكس صورة الماضي الممثلة في جسد شيخ، والحاضر في رمزية «علب الدواء»، والمستقبل المسروق في رمزية «طيف المقعد».

إذاً، وعبر تقنية الانعكاس، تعمل الكاتبة على توظيف رمزية الصبية، التي تشير إلى حال المرأة العربية في صورتها الأوسع، وفقدانها للمقعد الذي بدت عليه كملكة حتى إن كان أعرج، ما يعني فقدانها لمملكتها الشاملة للمتجر، والبيت، والأب، لمصلحة زوجة الأخير، وأخيراً خسارتها لأداة الرؤية و«البصيرة» المرآة بعد انكسار اللافتة الزجاجية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"