ترجمة الشعر

02:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
يوسف أبولوز

تبدو الكتابة عن ترجمة الشعر مثل نهر هيراقليطس الفلسفي، ولكن الفرق هنا أننا نقطع هذا النهر أكثر من مرّة، وليس مرّة واحدة، بمعنى، أننا في كل مرة نكتب فيها عن ترجمة الشعر؛ نكتشف أن هناك جديداً في الموضوع، يمكن أن يُكتب عنه، فالترجمة، مثل الكتابة هي كائن حيّ متجدد، والترجمة في أحد وجوهها أشبه بالموسيقى التي تفهمها كل الشعوب، وإن كانت هذه الشعوب تتباين في اللغات؛ لكنها في لغة الموسيقى هي كتلة بشرية واحدة، وكذلك في الترجمة التي هي عنصر موحّد بين الشعوب، وإن كانت عبارة «جسر الحضارات» متداولة بكثرة عند الحديث على تقارب وتجاور ثقافات العالم، فإن الترجمة هي العمود الأساسي لهذا الجسر الكوني.
الترجمة أيضاً تُفْهم وَتُحسّ، تماماً كالموسيقى، وإن كان الذي يسمعها لا يعرف شيئاً في ثقافة الموسيقى، فالقارئ المحترف يستطيع معرفة أن هذه الترجمة رديئة، وتلك ترجمة جيدة حتى لو كان هذا القارئ لا يعرف شيئاً في اللغات، فهو يدرك ب«غريزته» القرائية، مثلاً، أن هذا النصّ المنقول عن الإنجليزية إلى العربية نصّ رديء الترجمة حتى لو كان هذا القارئ لا يعرف الإنجليزية، وهكذا مع اللغات الأخرى.
في هذه المادة خطر لي أن أكتب في شقّين.. الأول: ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأجنبية، والثاني: ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة العربية.
في الشق الأول مترجم الشعر العربي إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية أو اليابانية أو أية لغة عالمية حيّة.. يجد صعوبة قصوى في هذا النوع من الترجمة، وتعود هذه الصعوبة إلى طبيعة الشعر العربي، وهي طبيعة شعرية تقوم على أكثر من مكوّن: المجاز، التورية، الكناية، الاستعارة، التشبيه، التكثيف، الإطناب، الرمز، وغيرها من مكوّنات هي عناصر علم البلاغة العربية، أضف إلى ذلك أن الكثير من المفردات العربية تحمل أكثر من معنى واحد، أضف إلى ذلك أيضاً الصيغ الزمنية الثلاث: الماضي، الحاضر المستقبل، وبالتالي، الفعل الماضي، والفعل المضارع، وفعل الأمر، أضف إلى ذلك أيضاً: الصيغ اللغوية الأخرى مثل المفرد، والمثنى، والجمع، حتى علامات الترقيم في النص الشعري العربي لها دلالات بلاغية، كل ذلك أو الكثير منه ليس موجوداً في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الصينية أو اليابانية أو الهندية حتى بعض الحروف تشكّل معجزة صوتية في العربية مثل حرف «الضاد» الذي يقال إنه لا يوجد في أية لغة إلاّ في العربية، أما مخارج الحروف من فم الإنسان، فهي خصيصة صوتية أخرى، فهناك حروف حلقية تخرج من آخر فم الإنسان مثل حرف «الحاء»، وهناك حروف تخرج من بين الشفتين مثل «الباء».
هذه الخصائص اللغوية في اللغة العربية، هي أيضاً خصائص موجودة في الشعر العربي، ولا تنس هنا: الصدر، العجز، القافية، البحور، ومجزوء البحور، والتفعيلات، وعلم العروض، وعلم الكلام، وعلم البلاغة، وعلم الصرف، وعلم النحو، وإلى آخره من خصائص الكثير منها غير موجود في اللغات الأجنبية، وإن وُجِدَت، فهي ليست مركّبة وحتى معقدة كما هو الحال في لغتنا العربية العبقرية.
لهذه الأسباب يصعب على مترجم الشعر العربي أن ينقله إلى اللغات الأجنبية؛ بل، ربما يستحيل أحياناً ترجمة شعر عربي إلى أي لغة من دون أن يفقد النص الشعري أكثر من 90٪ من حقيقته الشعرية، الرمزية، والمجازية، والاستعارية وغيرها من مكوّنات بلاغية.
يصعب أيضاً على مترجم الشعر العربي أن ينقله إلى لغات أجنبية إذا كان هذا الشعر ينتمي إلى الجاهلية، وما قبلها، فهذا الشعر بالذات يحتاج إلى ترجمة من العربية إلى العربية إن جازت العبارة، أي أن قصيدة جاهلية لامرئ القيس مثلاً تحتاج إلى شرح بلغة أخرى مبسّطة؛ لكي تفهم وتستوعب جمالياً وفكرياً، فما بالك إذا أردنا أن نترجم شعراً من هذا النوع إلى الإنجليزية أو الفرنسية؟
هنا، نتوقف عند نقطة قد تكون مهمّة بالنسبة للقارئ المهتم بترجمة الشعر العربي، وهي أن الشعر العربي الحديث «وبخاصة قصيدة التفعيلة، وأكثر خصوصية قصيدة النثر» هو شعر قابل بسهولة إلى الترجمة إلى اللغات الأخرى.
قصيدة النثر العربية تخلّصت من الكثير من المحمولات البلاغية التي ذكرت قبل قليل، وتعتمد هذه القصيدة على التكثيف والصورة واللقطة والحالة الشعرية اليومية، ولغتها متخففة من الكنايات والتوريات؛ ولذلك يسهل ترجمتها إلى اللغات الأجنبية، لا بل إن كثيراً من شعر قصيدة النثر يبدو وكأنه شعر مترجم إلى العربية، فما أكثر شعراء قصيدة النثر العرب الذين تقمّصوا رامبوا، وبودلير، وسان جون بيرس، وإليوت، وريتسوس، وبورخيس، وجاك بريفير وغيرهم من شعراء غير عرب مترجمين إلى العربية بالأطنان، حتى أننا نقرأ شعراً مترجماً إلى العربية أكثر مما نقرأ شعراً عربياً بلساننا العربي.
النقطة الثانية، هي ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية، وفي هذه الحال.. هناك نوعان من هذه الترجمات: النوع الأول: الترجمة المباشرة من اللغة الأجنبية إلى العربية.. مثلاً، من الإنجليزية إلى العربية مباشرة، أو من الفرنسية إلى العربية مباشرة أو من الروسية والصينية والألمانية واليابانية إلى العربية مباشرة، وهذه الترجمات تأتي صافية، مقبولة، على الرغم من ترجمة الشعر، أي شعر، تفقده نسبة عالية من حقيقته، وربما هذا ما يسمى «خيانة» في الترجمة، ومع ذلك هي خيانة لا بدّ منها، فلولا الترجمة لما عرفنا شعريات العالم في جهاته الأربع.
النوع الثاني: الترجمة التي تحتاج إلى وسيط لغوي، مثلاً: من اليابانية إلى الإنجليزية، ومن الإنجليزية إلى العربية، فاللغة الإنجليزية في هذا المثال هي اللغة الوسيطة، وهذا النوع من الترجمات هو كارثة تقع على رأس الشاعر ورأس قصيدة، فإذا كانت القصيدة تفقد نسبة عالية من حقيقتها إذا تُرجمت من لغة ما إلى العربية مباشرة، فكم تفقد هذه القصيدة من حقيقتها اللغوية والجمالية وحتى الموسيقية إذا تُرجمت عبر لغة وسيطة.
مع كل ذلك، على ما فيه من حسنات وسيئات لا بد من ترجمة الشعر حتى نعرف العالم ونتذوّقه ونعرف جوهر لغاته، وكل لغة جوهرها الشعر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"