لبنان ومؤتمر باريس

00:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.خليل حسين*

ثمة من يقول، إن لبنان تمكن في السابق من تخطي ظروف أكثر صعوبة من التي يمر بها حالياً، وأعاد تكوين الدولة والسلطة رغم وجود مصاعب ومعوقات تكاد تكون مستحيلة معها إعادة البناء، ربما يكون ذلك صحيحاً وأمراً مألوفاً في الحياة السياسية اللبنانية، إلا أن أوضاعه وظروفه الخاصة والموضوعية باتت أكثر صعوبة، وتتطلب شروطاً ومعطيات إضافية، ليست متوفرة أو سهلة التأمين، أقلها في المدى المنظور، وعليه فإن إعادة البناء، لها مقوماتها التي على اللبنانيين التفكير فيها مليا والعمل على تأمينها قبل فوات الأوان.

  واستكمالاً للمبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون في أغسطس / آب الماضي، عُقد في باريس مؤتمراً دولياً لدعم لبنان، ويدل حشد الحضور الذي تمثل في تسع وعشرين دولة، إضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، على النية للمساعدة المشروطة بإجراء العديد من الإصلاحات التي سبق ونادى بها العديد من الدول المانحة وفي طليعتها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النقد الدولي، ورغم ذلك ظهر في انعقاد المؤتمر وجلساته ما يظهر استياء فرنسا من الموقف السياسي اللبناني، الذي تمثَّل أولا في الكلمة التي أعطيت بداية للمجتمع المدني متقدما على الكلمة الرسمية للبنان، إضافة إلى الرسائل السياسية التي تقصدتها كلمات الحاضرين وفي طليعتها كلمة الرئيس ماكرون، الذي شدد على أن المساعدات التي يمكن أن تُمنح للبنان هي للشعب وليست للسلطة، ما يؤشر بشكل واضح إلى فقدان الثقة في ممارسة الحكم في لبنان، وهذا ما يُفسر عملياً الإصرار الدائم على إجراء الاصلاحات العملية قبل أي مساعدات يمكن تقديمها، ذلك استناداً الى التجارب السابقة المتصلة بمؤتمرات دعم لبنان التي نظمتها باريس خلال العقد الماضي والتي استهلك لبنان مليارات الدولارات ذهبت في غير موضعها، حيث هناك اتهامات مباشرة وواضحة بحجم غير مسبوق من الفساد المستشري في الإدارة اللبنانية.

  لبنان اليوم بحاجة لإعادة بناء نظام اقتصادي سياسي اجتماعي، عنوانه عقد سياسي اجتماعي قائم على معطيات جديدة ينبغي مراعاتها، يأتي في طليعتها إعادة البناء المالي والاقتصادي الذي انهار تماماً وباتت البلاد في حالة من التفكك والانحلال. ثمة أكثر من نصف الشعب اللبناني تحت مستوى خط الفقر المدقع، كما بات مهدداً بالمجاعة، وبانهيار الأمن الاجتماعي اذا ما تم رفع الدعم عن المواد الأساسية، وهو إذا ما حصل فسيؤدي إلى انفلات الأمور من عقالها عملياً في وقت باتت مؤشرات الإفلاس واضحة تماماً، وتحتاج إعادة الهيكلة الى معجزات لن تحصل الا بشروط الإصلاح السياسي والمالي.

 أشار المؤتمر إلى إمكانية تقديم ما يقارب ثلاثمئة مليون يورو من حيث المبدأ وجلها يمكن أن يذهب في إطار الدعم الغذائي والتعليمي وغيرها، وهي مطارح مركزية يحتاجها المجتمع اللبناني في ظل ظروف قاهرة يعيشها، والرسالة الأشد قسوة كانت في طريقة وأسلوب صرفها عبر المؤسسات والبنى غير الرسمية، ما يدل على عدم الثقة بالسياسات القائمة حالياً، لاسيما أن المشاريع المبدئية المقدمة تشير إلى حاجة لبنان للإقلاع بمشاريع إعادة البناء في الحد الأدنى إلى عشرة مليارات دولار.

  لقد وصل لبنان إلى حدود الخطوط الحمر اقتصادياً ومالياً وسياسياً واجتماعياً، وهو الآن بحاجة إلى معجزة دولية لإيقاف انهياره المتسارع جداً، ما يحتم أولاً يقظة اللبنانيين قبل غيرهم ، والاعتراف بما يعانون من أزمة نظام وحكم، والعمل على إعادة تهيئة وتركيب مشاريع أسس جديدة لبناء النظام والسلطة على قواعد جديدة تتماشى ليس فقط مع المتغيرات الداخلية، وانما أيضاً مع ما يحدث من حوله في العالم، وذلك يتطلب وعيا واستشرافا للمستقبل، لاسيما أن العالم بأجمعه مشغول وغارق في مشاكله، ربما اليوم ثمة من ينتبه للبنان، أما مستقبلاً فيبدو الأمر أكثر صعوبة، عندها لن تتمكن مؤتمرات باريس السابقة ولن تكون اللاحقة قادرة على مساعدة لبنان إن لم يساعد نفسه أولاً في الاصلاح قبل أي أمر آخر.

* رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"