بريطانيا بين أوروبا ومحنة أيرلندا

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

يخضع الانسحاب من الاتحاد الأوروبي للمادة ال 50 من معاهدته. وبموجب تلك المادة يتعين على الدولة المغادرة أن تخطر المجلس الأوروبي بانسحابها، كي يطلب من الاتحاد الأوروبي «التفاوض مع تلك الدولة، وإبرام اتفاق معها، وتحديد الترتيبات الخاصة بانسحابها مع مراعاة إطار علاقتها المستقبلية مع الاتحاد». وتقتصر فترة التفاوض على سنتين ما لم يتم تمديدها، وبعد ذلك تتوقف المعاهدات والامتيازات عن التطبيق.

 ومنذ إجراء استفتاء «بريكست» في بريطانيا عام 2016، والذي جاءت نتائجه مؤيدة للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وعليه فقد بدأت المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي من أجل إنهاء الشراكة بينهما والتوصل إلى اتفاق جديد، وقد استمرت فترة التفاوض أربع سنوات دون أن يتوصل الجانبان إلى اتفاق مرضٍ لكلا الطرفين.لمن في اللحظات الأخيرة ، تم يوم الخميس الماضي التوصل إلى لإتفاق للخروج ، ما ينهي أربع سنوات من المفاوضات المضنية.

 وسوف تغادر المملكة المتحدة، رسمياً، الاتحاد الأوروبي في تمام الساعة الحادية عشرة مساء من يوم الجمعة، الموافق 31 يناير 2021. لتبدأ، على الفور، فترة انتقالية، مدتها 11 شهراً. وخلال هذه الفترة، ستواصل المملكة المتحدة الامتثال لقواعد الاتحاد الأوروبي، ودفع حصتها من المساهمات. كما ستبقى أغلب الأمور على حالها. وبعد ذلك سيحدث الانفصال بين الطرفين، حتى وإن تعذر التوصل إلى اتفاق يلبي متطلبات كلّ منهما.

 وقد عُقد في بروكسل في 12 ديسمبر 2020 اجتماع يضم ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والحكومة البريطانية، فيما يسمى اجتماع الفرصة الأخيرة، للتوصل إلى اتفاق يضمن لبريطانيا الدخول إلى الاتحاد الأوروبي من دون تعريفة جمركية، لكن المفاوضات كانت صعبة للغاية، وفي النهاية اتفق الجانبان على مواصلة المحادثات. وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين في بيان مشترك:«إن المسؤولية تتطلب من الطرفين في هذه المرحلة بذل جهود إضافية». ويصر الاتحاد الأوروبي على حرمان المملكة المتحدة من ميزة دخول أسواقه بلا جمارك دون الوفاء بقواعد منافسة متكافئة، إلا أن الاحتمال المرجح قد يتمثل في مغادرة بريطانيا الكتلة الأوروبية «بدون اتفاق»، ما سينعكس بالسلب على الوضع في جمهورية أيرلندا التي تمثل الحدود البرية بين الجانبين.

 وكان الحزب الجمهوري الأيرلندي قد دعا إلى استفتاء بشأن أيرلندا موحدة، إذ إن خروج أيرلندا الشمالية من الاتحاد الأوروبي يرسم حدوداً جديدة تعزلها عن جارتها جمهورية أيرلندا، ما يضعف الحركة التجارية بين طرفي الحدود. وتعد إيرلندا جرحاً غائراً في جسد قارة أوروبا، ولا تزال مأساتها مستمرة مع استمرار تقسيمها إلى دولتين. 

 وبدأت مشاكل الإيرلنديين منذ القرن السادس عشر، وخصوصاً عندما نصّب الملك الإنجليزي هنري الثامن نفسه رئيساً للكنيسة الإنجليزية، وأمر البرلمان بمناداته ملكاً على أيرلندا عام 1541، وأدت السياسة الإنجليزية الاستعمارية إلى وصول آلاف من المستوطنين الإنجليز والأسكتلنديين البروتستانت. ومنذ ذلك الحين، أصبح التاريخ الأيرلندي رهيناً للصراع الطائفي والعرقي. وفي عام 1918 بدأت ثورة التحرير في أيرلندا، والتي قادها الجيش الجمهوري الأيرلندي، وانتهت بموافقة مجلس العموم البريطاني على مشروع حكومة أيرلندا، والذي أنشأ منطقتين تتمتعان بالحكم الذاتي في أيرلندا، مع بقاء كل منهما تحت سلطة المملكة المتحدة. كما تضمن أحكاماً للتعاون بين الإقليمين، إلى أن تسنح الفرصة لإعادة توحيد أيرلندا في نهاية المطاف.

 وفي أعقاب حرب الاستقلال والمعاهدة الأنجلو-أيرلندية، أصبح الجزء الجنوبي من الدولة الأيرلندية ويضم 26 مقاطعة دولة مستقلة، في حين مارست أيرلندا الشمالية وتضم 6 مقاطعات خيارها بالبقاء في المملكة المتحدة. وقد أشاع تقسيم أيرلندا استقراراً نسبياً في هذه البلاد، لكن التمييز الذي كان يتعرض له الكاثوليك في الشمال، دفعهم إلى الثورة عام 1968؛ حيث قام هؤلاء بمظاهرات ضخمة تطالب بحقوقهم في التعامل معهم كمواطنين، ما أدى إلى استخدام العنف ضدهم، وبدأ الجيش الجمهوري الإيرلندي يشن الهجمات الدموية ضد البروتستانت وضد القوات البريطانية، وانتهت تلك الأحداث باتفاق «الجمعة الحزينة» في 10 إبريل عام 1998. وبموجب هذا الاتفاق أصحبت أيرلندا الشمالية تتمتع بمقدار كبير من الحكم الذاتي، كما التزمت الحكومة البريطانية بترتيب استفتاء عندما ترغب غالبية السكان في تغيير الوضع. ويبدو أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، سوف يؤجج الوضع في أيرلندا، حيث تعود التعريفات الجمركية بين شطري الجزيرة، ويعود الفراق بينهما بعدما عاشا فترة طويلة في ظل دولة واحدة خالية من الحدود، وهذا ما سيدفع بالقوميين الأيرلنديين في الشطر الشمالي، للاتجاه نحو العنف من جديد لتحقيق الوحدة الترابية بين شطري الجزيرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"