التنمية وفيروس التمييز

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

ما تزال مجتمعاتنا تعاني آفات خطرة؛ مثل: التخلّف والجهل والأمّيّة والفقر والمرض؛ ولكي نواجهها فإننا بحاجة إلى المعرفة والعلم والتكنولوجيا والقيم الإنسانية، ولا سيّما قيم الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والمشاركة والشراكة؛ إذْ لا يمكن بناء المجتمعات وإنجاز مشاريع التنمية، بزعم أفضلية هذا الدين أو ذاك، أو أحقّية هذه الطائفة أو تلك، فلن يتحقّق التقدّم المطلوب بالإقصاء أو التهميش الأيديولوجي، سواء باسم الدين أو القومية أو مصالح الكادحين، خصوصاً بادعاء امتلاك الحقيقة؛ بل والحق في احتكارها، ولعل كلّ جهة أو جماعة أو طائفة تصوّر نفسها، وكأنها الفرقة الناجية؛ «المُبشّرة بالجنّة» حسب تعبير المؤمنين، أو الطليعة المقدامة حسب الأيديولوجيا السياسية اليسارية.

 لقد صرفت مجتمعاتنا سنوات طويلة، ولا سيّما بعد إحرازها الاستقلال في معارك داخلية محتدمة؛ تارة باسم حقوق «الأغلبية» السائدة، وأخرى باسم «الأقلية» المهضومة، وثالثة بدعوى «الأيديولوجيا»، ورابعة تحت عنوان اختيار «طريق التنمية». وتحاربت القوى والتيارات السياسية فيما بينها؛ مرّة بين «الملكيين» و«الجمهوريين»، وأخرى بين القوميين والشيوعيين، وثالثة بين الدينيين والعلمانيين. كما شهد العالم العربي صراعات تحت شعارات دينيية وطائفيية، مرّة لإقصاء مجموعات ثقافية تُسمّى مجازاً ب «الأقليّات»، ومرّة ثانية بين طوائف ضمن الدين الواحد، ومرّة ثالثة بين مجموعات إثنية أو لغوية أو سلالية، وجميعها تتعلق بهدر الحقوق، وعدم تحقيق المواطنة المتساوية من دون تمييز أو استعلاء.

 وفي المجتمعات المتعددة الثقافات، دينياً وقومياً وإثنياً ولغوياً، ومنها بلداننا العربية وبعض البلدان الإسلامية؛ أكّدت التجربة أنه لا يمكن تحقيق التنمية المنشودة، والنهوض بهذه المجتمعات والبلدان من واقع التخلّف إلى واقع التقدم، إلا بالتعاون بين مختلف التكوينات؛ فالأوطان تُبنى بالسلام والاستقرار والتعايش. وكان دستور اليونيسكو قد أكّد: «لما كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام»، والأمر يحتاج إلى حوار وتفاهم؛ لحل المشكلات الوطنية والاجتماعية، وتوافق وطني في ظل سيادة القانون.

 ولعلّ بلداً صغيراً نسبياً مثل ماليزيا تمكّن وخلال ثلاثة عقود من الزمان، من التحوّل من دولة متخلّفة إلى دولة صناعية قادرة على المنافسة في السوق العالمية؛ بفعل قيم التسامح والسلام والعيش المشترك بين المجموعات الثقافية المختلفة المسلمة والبوذية والمسيحية والهندوسية وأتباع ديانات قديمة أخرى.

 لم يكن وصول بلد مثل ماليزيا إلى النجاح المطلوب عبر فتاوى تكفّر هذه المجموعة الدينية على حساب تلك أو تعلّي هذه الطائفة على حساب طائفة أخرى؛ بل كان بالتوجه - وعلى نحو صارم - لوضع مسافة واحدة من الجميع، ولم يكن ذلك من دون عناء أو أخطاء أو حتى شبهات فساد؛ لكن المشروعية القانونية كانت هي الضامن للنجاح وللشرعية السياسية.

 كما لم تكن لدولة كبرى مثل الصين أن تحقّق القفزة النوعية الهائلة في التقدّم بالكتاب الأحمر لماوتسي تونغ ووصاياه؛ بل كان الانصراف إلى العلم والتكنولوجيا، وتعديل شروط الإنتاج وعلاقاته بالقوى المنتجة؛ هو الذي أسهم في تحقيق التراكم المطلوب، فضلاً عن نظام إدارة سليم، وإرادة سياسية فاعلة.

 وهكذا فإن مواكبة منجزات العلم والتكنولوجيا، وتوظيفها بشكل صحيح وعلمي؛ هو الذي حقق المنجز التنموي.

لقد أكّدت التجارب التنموية أن إحراز التقدّم؛ يتطلب علماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب..، وليس تكديس أعداد من خريجي المدارس الدينية هم أقرب إلى العاطلين عن العمل منهم إلى المنتجين، كما ليست حاجة المجتمع إلى كوادر تتخرّج في المدارس الحزبية لا عمل لها سوى الأوامر البيروقراطية.

 الصينيون وبعد وفاة الزعيم ماوتسي تونغ 1976، وانتهاء «الثورة الثقافية»، ذات البعد الأيديولوجي الدموي، فإنهم توجّهوا إلى بناء القدرات بإرادة قوية وطموح كبير، وخلال أربعة عقود من الزمان نافست الصين الولايات المتحدة؛ القوة الأكبر والأكثر تقدماً في العالم.

وفي الحالتين (الماليزية والصينية)، لم يكن الاعتبار سوى للعلم والتكنولوجيا، وهما ما نحتاج إليه في بلداننا العربية والبلدان الإسلامية، خارج دوائر التزمت والتشدّد والغلو الديني والطائفي، الذي ضرب فيروسه بلادنا بالصميم أكثر من فيروس «كورونا»، وأحدث تمزّقاً وتفتّتاً في بنية مجتمعاتنا، ونحن لما نكن قد شفينا بعد، من فيروس الأيديولوجيا الذي هيمن علينا، وتوغل فينا لسنوات طويلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"