الجلوس وسط الحمقى

22:49 مساء
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

لا يخرج العمل الإبداعي إلا من رحم الضجيج، ولا يعلن المبدع عن ولادة عمله إلا من خلال بوابات الصخب، ولا تخرج صَدَفَة نادرة إلا بعد صراع مع حركات البحث والتقصي والاستكشاف التي تغري الكاتب بالدخول إلى الأعماق لاستخراجها، وفي الشعر لا تأتي القصيدة إلى الشاعر وهو يجلس تحت ظل شجرة يستمتع بالهواء وتغاريد الطيور، حتى وإن جلس، فجلوسه سفر إلى عوالم النص، ومطاردة شاقة لظباء الجمال، ومشاهدة الغيم الماطر الذي يستبشر به العطشى، ويحتفي به الجفاف، هذه الرحلة التي ينتقل فيها المبدع بخيالاته، ويسافر من خلالها إلى غاياته، هي التي تجعله يمشي على ريح القلق التي لا تتوقف ولا تهدأ، فهو كالماء الذي تحيا بجريانه الأرواح، وتموت بوقوفه المدارك والأخيلة وولادات الأعمال الأدبية، هذه الحركة المائية للإبداع هي ما عبر عنها الشافعي بقوله:

إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسدُهُ

إن ساحَ طابَ وإن لم يجرِ لم يطِبِ

المبدع الحقيقي هو الريح التي تسوق سحاب إبداعه الثقال لتروي قرى التواصل، وتخرج من أرض الفضاءات الواقعية والافتراضية ثمار العطاء، وهو الذي يفد إليها بالحياة فتهتز طرباً، وترتج نشوة ودهشة، ولا يدعها تنعم بالهدوء إلا بعد أن تضطرب روحه فترعد، ويتوتر فكره فيبرق، وتتبخر في مخيلته أفكاره فتصعد شيئاً فشيئاً حتى تصطدم بريح طيّبة تنتزعها من داخله لتسوقها بشارة إلى القلوب المحبة للوهج الفكري، والعقول النابضة بنور المعرفة.

ومع هذا فإني أقول إن المبدع قد عرف مواقع التواصل الاجتماعي وتعلق بها وانساب مع حركتها المتصاعدة في الحياة، فهي لا تعرف الهدوء، وفي ذروة ضجيجها يبحث الشاعر عن اللحظة التي يغلق فيها كل منافذها التي لا تغذي جنونه ليلوذ بقصيدته وشغبها، وفي الحقيقة إن العديد من الشعراء الذين تعايشوا مع هذه الصرعة العالمية أدركوا أهميتها وانفتحوا على العالم الرقمي، وأصبح حضورهم فيه جارفاً، فضلاً عن أن آخرين وجدوا في هذا التواصل مضيعة للوقت، ومن ثم كمن يجلس وسط مجموعة من الحمقى، وإذا أراد أن يمضي معهم إلى الغايات فعليه أن يتحمل ما تجود به صفحاتهم وحساباتهم من أشياء لا أهمية لها لكونها تفضي إلى العبث واللاجدوى.

 فقد وصف الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو مواقع التواصل الاجتماعي بأنها «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق في الكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء».

وفي خضم كل هذا يدرك الشاعر في النهاية أن المجازفة مطلوبة، وأن الشعر ضرورة ملحّة، وأنه يجب تلمس مواطن الهدوء بعد العاصفة، لأن الرصيد الباقي للمبدع هو الكتابة، سواء كانت شعراً أو نثراً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"