تحولات المثقفين.. مع «يوليو» وضدها

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

كانت قصة «الرحلة» ليوسف إدريس، التي نشرتها صحيفة «الأهرام» صيف 1970، نبوءة غير قابلة للتصديق؛ حيث توقعت رحيل جمال عبدالناصر قبل موعده بثلاثة أشهر.

بالتكوين السياسي لم يكن يوسف إدريس ناصرياً.

وبالتجربة الإنسانية، فقد عارضه ودخل السجون قبل أن يعاود النظر في تجربته ويدافع عنها بعد أن انقضى زمنه.

لم يكن يوسف إدريس وحده الذي انتابته تلك التحولات الحادة في المشاعر من الكراهية المقيتة إلى المحبة الغامرة.

«سيظل ذو الوجهِ الكئيبِ وأنفُه ونيوبُه

وخطاه تنقر في حوائطنا الخراب

كانت تلك كراهية لا حدود لها عبّر عنها الشاعر صلاح عبدالصبور في أعقاب أزمة مارس 1954، غير أن اختبار الزمن غيّر موقفه من نقيض إلى نقيض بعدما رحل الرجل الذي تمنى موته». 

«كأن مصر الأم كانت قد غفت، كي تستعيد شبابها ورؤى صباها وكأنها كانت قد احترقت لتطهر ثم تولد من جديد في اللهيب

وخرجت أنت شرارة التاريخ من أحشائها

لتعود تشعل كل شيء من لظاها».

كيف حدث ذلك؟ ولماذا كانت تلك التحولات الحادة في المشاعر والمواقف؟

بأي نظر موضوعي، فإن الفارق هو حجم الإنجاز الاجتماعي الذي تحقق بين عامي 1954 و1970، وحجم ما حلق في الأفق العام من آمال وأحلام لامست عمق اعتقاد جيل الأربعينات الذي ينتسب إليه يوسف إدريس وصلاح عبدالصبور.

على الرغم من الهزيمة العسكرية في 1967 بقيت الأحلام تراود نفس الجيل، على الرغم من انكسارها.

لم يجر انقلاب المشاعر والمواقف بالوتيرة نفسها في حالة أحمد فؤاد نجم.

هو شاعر عامية متمرد يقول ما يعتقد فيه ويدفع ثمنه.

بالأيام الأولى لهزيمة 1967 أطلق على عبدالناصر اسم «عبدالجبار» في قصيدة لحنها الشيخ إمام عيسى:

«الحمد لله خبطنا

تحت بطاطنا

يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار».

لم تكن مشكلة القصيدة فيما تضمنته من نقد لنظام «يوليو» وعبدالناصر، حتى لو كان جارحاً.

بعد سنوات طوال من رحيل الرجل الذي عارضه وهجاه في حياته كتب منتصف الثمانينات قصيدة دوت في مصر والعالم العربي.

«من دا اللي نايم وساكت 

عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت

وعاش ومات وسطنا

على طبعنا ثابت

وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت

ولا يطولوه العدا

مهما الأمور جابت».

يكاد البيت الأخير أن يلامس جوهر قصة يوسف إدريس.

نفس النظرة إلى عبدالناصر، يختلف معه، لكنه يرفض أن يتمكن الأعداء منه مهما الأمور جابت، وهو حي أو ميت.

هناك شاعران عاميان آخران لهما أوفر الأثر في الوجدان العام توصلا إلى الاستنتاج نفسه، لكن في وقت مبكر هما فؤاد حداد وعبدالرحمن الأبنودي.

الأول  يطلق عليه «أبو الشعراء» ويسلم بريادته الفنية، التي لا تضارع، أدخل السجون في الستينات، لكنه انتسب إلى أحلام عبدالناصر وأنشد فور رحيله ديواناً كاملاً من جزأين.

«فين طلتك في الدقايق تسبق المواعيد»

«آدي المدارس ودي الشوارع ودي العمال

والفلاحين الأحّبة أمّتك يا جمال».

والثاني  شاعر مجيد في بنائه لقصائده.

«مش ناصري ولا كنت ف يوم

بالذات في زمنه وف حينه

لكن العفن وفساد القوم

نساني حتى زنازينه».

أخذ التحول  أحياناً  اتجاهاً عكسياً، كما حالة أحمد عبدالمعطي حجازي شاعر الثورة الأبرز في سنوات صعودها وأول من أنكرها بعد أن انقضت أيامها.

كانت قصيدته «الرحلة ابتدأت» واحدة من أفضل ما كتبه هو، في رثاء عبدالناصر:

«من يا حبيبي جاء بعد الموعد المضروب للعشاق فينا

الفجر عاد، ولم أزل سهران أستجلي وجوه العابرين 

فأراك! لكن بعد ما اشتعل المشيب وغضن الدهر الجبين

الا تبتئس أنا تأخرنا!

فبعد اليوم لن يصلوا لنا ليفرقونا!»

لم تمض سنوات قليلة حتى انقلب شاعر الثورة عليها، وأعلن فراقه الأخير عن أميره.

لم يكن أحمد عبدالمعطي حجازي وحده، فهناك آخرون أقل قيمة فنية غنوا للثورة وانقلبوا عليها.

فسروا موقفهم الجديد بأنهم لم يكونوا يعلمون الحقيقة.

كانت تلك واحدة من أبرز ما يستوجب التأمل في تحولات المثقفين مع وضد ثورة يوليو.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"