التدليس على الذاكرة العامة

00:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

كان ذلك حدثاً استثنائياً في شكله ومضمونه، توقيته ورسالته. في (٦) مايو (١٩٩٦) نشرت صحيفة «الأهرام» مقالاً وقعه خمسة قادة عسكريين كبار تحت عنوان: «تصويبات لمغالطات حول حربي الاستنزاف وأكتوبر».

كانت الحملة على حرب الاستنزاف قد وصلت إلى حدود تجاوزت كل عقل ومنطق، تصدرها بعض كُتاب السلطة، كل سلطة، وبعض مؤرخي العصر، كل عصر.

أرادت الحملة بالتدليس اصطناع تناقضات ما بين حربي الاستنزاف وأكتوبر، كأن الأولى لم تكن بروفة للثانية.

وقع على ذلك المقال، وقد كان ذلك لافتاً بذاته، الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية الأسبق الذي ينسب إليه إعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر إثر هزيمة (1967)، والفريق عبدالمنعم واصل، واللواء عبدالمنعم خليل، واللواء طيار الدكتور جبر علي جبر، واللواء حسن البدري، المؤرخ العسكري المعتمد في تقصي أسباب الهزيمة لتصحيح أسبابها.

على الرغم ممّا انطوى عليه المقال من رصانة تعبير، فإنه عكس قدر الغضب داخل المؤسسة العسكرية على اصطناع التناقض بين حربي الاستنزاف وأكتوبر. ولم يكن ممكناً نشره دون موافقة سياسية وعسكرية مسبقة.

اخترقت الحملة على حرب الاستنزاف مسلمات رسخت في ضمير المقاتلين، انتهكت على نحو صارخ كل معنى قاتلت من أجله مصر وكل تضحية بذلت في حرب الثلاث سنوات، التي مهدت لعبور القوات المسلحة في حرب أكتوبر.

في مقدمة المقال قال القادة العسكريون الخمسة:

«قد يخفي على غير المختص معرفة أن أوجب واجبات القيادة العامة للقوات المسلحة، مداومة وضع وتطوير الخطط الحربية لمواجهة احتمالات المستقبل القريب، وفقاً لمختلف العوامل السياسية والاقتصادية والمعنوية والعسكرية المؤثرة في شكل ومجال وأبعاد الصراعات المسلحة المحتملة».

«إنه بمجرد انتهاء مرحلة الدفاع النشيطة في فبراير ١٩٦٩ انكبت هيئة عمليات القوات المسلحة على وضع الخطط الهجومية الكفيلة بتحقيق الأهداف المرحلية المنشودة مع مداومة تطويرها طبقاً لمختلف العوامل المؤثرة».

المعنى –هنا- أن عمليات حرب الاستنزاف استهدفت تجهيز القوات المسلحة، لتنفيذ الواجبات المنصوص عليها في الخطة، التي كان قد وضعها الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة قبل استشهاده في مارس (1969) وطورها الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي تولى المنصب نفسه أثناء حرب أكتوبر.

قد تكون هناك أكثر من قراءة لوقائع التاريخ، هذه ليست مشكلة بذاتها، فمن طبائع الأمور اختلاف زوايا النظر.

المشكلة الحقيقية تغييب الحقائق الأساسية، فلا نكاد نعرف لماذا حربنا؟.. ولماذا هزمنا؟.. والأخطر: كيف أهدرنا النصر العسكري الذي نحتته مصر في الصخر بأظافرها؟

خلط الأوراق تدليس كامل على الحقيقة، فلم تحارب مصر من أجل هذا النوع من السلام، الذي لا يليق بالمنتصرين، أي منتصرين في التاريخ.

أين الحقيقة بالضبط؟.. هذه مسألة وثائق في عهدة الدولة محجوبة دون مقتضى، فقد مرت عقود طوال على الحروب التي خاضتها مصر، ولم يعد هناك سر مخبوء يخشى أن يعرف. مصر في حاجة حقيقية أن تقرأ تاريخها بالوثائق الأصلية، لا بأحكام الهوى والدعايات الغليظة.

هناك فارق جوهري بين النقد والتدليس، الأول- فعل تصحيح.. والثاني- فعل تضليل.. أفضل ما ينصف تضحيات الرجال في حربي الاستنزاف وأكتوبر نشر الوثائق وإتاحتها أمام الأجيال الجديدة حتى تطل على تاريخ بلدها كما حدث فعلاً.

الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، فالاجتراء عليها بالتدليس يكرس لنظرة دونية، كما لو أن الهزيمة قدر لا يمكن الفكاك منها، وإهدار بطولة السلاح نظرة بعيدة تسبق عصرها.

صلب القضية: محاولة ترسيخ ثقافة الهزيمة في الوجدان العام بالتنكر لأية قيمة انطوى عليها تاريخنا المعاصر.

طلب الحقيقة ليس من ألعاب الهواة؛ بل هو حق أصيل للأجيال الجديدة.. في تجربة الحرب هناك فارق جوهري على المستوى الوجداني بين جيلين متعاقبين.

الذين عاشوا الحلم بعضهم لم يستطع أن يتحمل وطأة انكساره. كان صلاح جاهين مثالاً تراجيدياً، فقد أصيب باكتئاب حاد.

والذين اكتسبوا وعيهم السياسي بعد الهزيمة رفضوها ونقدوا أسبابها ودفعوا فواتير الدم على جبهات القتال قبل أن يعودوا ليجدوا ثمارها قد ذهبت لغير أصحابها.

في عام (١٩٦٨) أعلنت أجيال ما بعد الهزيمة عن حضورها فوق مسارح التاريخ، تطلب المشاركة السياسية، تؤكد إرادة القتال وتدعو إلى جبهة داخلية متماسكة لا تفسح مجالاً للصوص المال العام والمتسلقين على أكتاف السلطة.

كانت تلك شخصية «عادل» في المسلسل التلفزيوني «القاهرة والناس». لم تكن مصادفة أن أغلب الأعمال السينمائية، التي قدمت نقداً مباشراً لنتائج الانفتاح الاقتصادي وإهدار تضحيات المقاتلين في حرب أكتوبر، تصدرها «نور الشريف».

بصورة أكثر تأثيراً أدى «نور» دور «حسن سلطان» في «سواق الأتوبيس».

كان ذلك الشريط السينمائي وثيقة إدانة بلغة فنية لا ادعاء فيها لعصر كامل انقلبت فيه موازين القيم، وبدت الحالة الأخلاقية والاجتماعية في انكشاف غير مسبوق.

وفيلم «ناجي العلي»، الذي جلب حملة صحفية غير منصفة وغير أخلاقية فرضت ما يشبه الحصار الكامل على أعماله ترجمة فنية لعمق التزامه بالقضية الفلسطينية.

بالتعبير الفني، فإن التناقض وصل مداه. وبالتعبير التاريخي، فقد ولد جيل جديد من قلب تجربة الحرب والانقلاب على مشروع جمال عبدالناصر.

شابت تجربة جيل الحرب مرارات لا شك في عمقها الوجداني، لكنها لم تكسر إرادته.

بتلخيص آخر نحن أمام حرب مستأنفة بالتدليس على الذاكرة العامة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"