جفاف أوروبا

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

زرت قبل أيام أحد روافد نهر «التايمز» البريطاني الشهير في ريف جنوب غربي إنجلترا قرب ويلز، ولم يكن في حالة جفاف عادي؛ بل إن أرضية قاع النهر بدت متشققة تماماً. لا غرابة إذاً أن تعلن كل شركات المياه في بريطانيا تقنيناً صارماً اكتمل هذا الأسبوع بحظر استخدام الخراطيم لري الحدائق وإلا تعرض من يفعل لغرامة ألف جنيه إسترليني.
هذا الجفاف في بريطانيا، وموجة الحر التي أدت إلى اندلاع حرائق عدة، لا تقتصر تبعاتهما على شح المياه فحسب وتأثر الزراعة، بل إنهما حلقة في سلسلة من التغيرات المناخية التي بدأت تشتد في السنوات الأخيرة لدرجة لم يعد معها الحديث عن مواجهة مشكلة الانبعاثات الملوثة للغلاف الجوي مجرد «تفكير مستقبلي»، بل حاجة آنية ملحة وطارئة بالفعل. وتطال هذه الموجة الأضرار بكل مناحي الحياة البشرية ومقوماتها الاقتصادية.
على الرغم من أن بريطانيا أصبحت الآن خارج الاتحاد الأوروبي، فإنها، جغرافياً، تظل جزءاً من أوروبا، لذا أصابها ما أصاب دول أوروبا كلها تقريباً من جفاف، ففي إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا، أتت الحرائق في الأسابيع الأخيرة على عشرات آلاف الأفدنة من المزروعات ما سيجعل محاصيل هذا الموسم أقل بكثير من المعتاد. على سبيل المثال، سينخفض محصول القمح في فرنسا، التي تعد ثالث أكبر مصدر للقمح في العالم (أكثر من أوكرانيا)، بنسبة كبيرة هذا العام ما يعني صدمة جديدة للأسعار العالمية. أما محصول الزيتون في إيطاليا، وكذلك في إسبانيا، فسينخفض ربما بأكثر من النصف ما يعني ارتفاع أسعار زيت الزيتون عالمياً. وهكذا سيؤدي جفاف أوروبا إلى انخفاض محاصيل وارتفاع أسعار.
نقص المياه لا يقتصر فقط على استخدامات البشر المنزلية أو ري المزروعات وتضرر المحاصيل. بل إن الجفاف أدى إلى انخفاض منسوب الأنهار في أوروبا بدرجة خطِرة عطلت الإنتاج الصناعي في أهم منطقة صناعية بألمانيا، ذلك أن نهر الراين يعد شريان النقل الرئيسي لمكونات الإنتاج من موانئ مثل روتردام في هولندا إلى ألمانيا وكذلك نقل الناتج الصناعي الألماني للشحن البحري والتسويق عالمياً. ولم يعد النهر صالحاً لحركة مراكب الشحن والنقل.
ليس هذا فحسب، بل إن الانخفاض الشديد في منسوب مياه الأنهار في فرنسا أدى إلى توقف عدد من محطات توليد الطاقة. ومع انخفاض منسوب المياه في الأنهار ودرجات الحرارة المرتفعة، أصبحت أكبر شركة فرنسية لتوزيع الطاقة (إي دي إف) تعاني نقصاً في شبكاتها. مع الأخذ في الاعتبار أن شبكات الشركة لا تغذي فرنسا فقط، بل أيضاً بريطانيا ودولاً أوروبية أخرى مثل ألمانيا.
بل إن توليد الطاقة من مصادر هيدروليكية في أوروبا تضرر بشدة في السنوات الأخيرة، وخاصة في العامين الأخيرين. وغالباً ما يتم تعويض نقص المياه موسمياً باللجوء إلى مخزوناتها، وأغلبها يكون ناتجاً عن ذوبان الثلوج من أعلى جبال الألب وغيرها. إلا أن هذا المصدر للمياه تراجع بنحو الثلث مؤخراً.
لا تؤثر التغيرات المناخية في ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار فقط، بل إن هناك مشكلة أخرى تواجهها أوروبا منذ صيف العام الماضي وهي قلة الرياح أيضاً. وأدى ضعف الرياح في العام الماضي إلى فقدان شبكات الطاقة في القارة الأوروبية نحو 2 غيغاوات في الوقت الذي زاد فيه الطلب على الكهرباء. تلك الكمية كانت تأتي من توربينات توليد الطاقة من الرياح. وهذا ما جعل دولاً أوروبية مثل ألمانيا وهولندا وكذلك بريطانيا تعود إلى تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بعدما كانت أوقفتها استعداداً لإخراجها تماماً من الخدمة في إطار الالتزام بأهداف مكافحة التغيرات المناخية، فالانبعاثات الكربونية من الفحم تزيد بكثير عن تلك الناتجة عن حرق الغاز، أو حتى النفط، في محطات توليد الطاقة.
تحكم تلك الدائرة خناقها على أوروبا أكثر من غيرها: تأثير الاحتباس الحراري الضار يدفع لاستهلاك مدخلات عالية الانبعاثات فتزيد من تلوث الغلاف الجوي، وبالتالي تزيد من تلك التأثيرات الضارة من جفاف وغيره، وبالتالي بدأ التشكيك في قدرة أوروبا على الالتزام بما تم الاتفاق عليه في قمة المناخ العالمية (كوب 26) في غلاسكو ببريطانيا العام الماضي من وقف الانبعاثات للحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض.
ربما من حسن حظ أوروبا والعالم أن قمة المناخ هذا العام (كوب 27) ستعقد في مصر والعام التالي (كوب 28) ستكون في الإمارات. إذ ربما تكون تلك فرصة لتقدم منطقتنا، التي تعد صحراوية أكثر من اخضرار أوروبا، نموذجاً لحماية البيئة عالمياً بالحد من الانبعاثات ومواجهة التغيرات المناخية بالتحول إلى الطاقة النظيفة من الشمس والرياح وغيرها.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdhn76a8

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"