عادي

جُزر «السوسيولوجيا» المنعزلة

22:40 مساء
قراءة 5 دقائق
5

القاهرة: وهيب الخطيب

«مجتمع الخوف» أو المجتمع الذي لم يتحرر من الخوف بعد، مسألة شغلت علماء الاجتماع، قبل وبعد ظهور جائحة كورونا، وبدت حاضرة على نحو كثيف في مؤلفات السوسيولوجي الألماني أولريش بيك (1944 2015)، خاصة في كتابيه «مجتمع المخاطر وانعدام الأمن» و«مجتمع المخاطر العالمي» وصدر الأخير في نسخته الأصلية 2007، وترجم إلى العربية 2013.

قبل ظهور الجائحة بنحو 13 عاماً، وقت ظهور كتاب «مجتمع المخاطر العالمي»، يجادل بيك، المولود في مدينة ستولب البوميرانية بألمانيا «سوسبك البولندية حالياً» عام 1944، بأن الخطر المتأصل في المجتمع الحديث سيسهم في تشكيل مجتمع خطر عالمي، مؤكداً «نحن نجلس جميعاً في منطقة مخاطر على مستوى العالم».

ويرى أولريش بيك أن التغير التكنولوجي في تقدمه المتسارع يجلب معه أنواعاً جديدة من المخاطر التي ينبغي على الإنسان أن يواجهها أو يتكيف معها، دون أن يقتصر «مجتمع المخاطر» على الجانبين الصحي والصناعي فحسب؛ بل يشمل كذلك سلسلة من التغيرات المترابطة المتداخلة في حياتنا الاجتماعية المعاصرة. مع التأكيد على أن تمتع الخطر بقوة الحرب المدمرة نفسها، وتتفشى لغة يسميها بلغة المخاطر، معدية وقادرة على تغيير شكل عدم المساواة الاجتماعية، فالأزمة الاجتماعية قائمة على تسلسل هرمي، أما الخطر الجديد فهو في المقابل ديمقراطي. يصيب الأغنياء والأقوياء أيضاً. وتصبح هزته واضحة في المجالات كافة، وتنهار الأسواق، ولا تتمكن النظم القانونية من إدراك الحقائق.

المخاطر السابقة من الطبيعي أن تولد الإحساس بالخوف لدى الإنسان، ومع الخوف تحتل مسائل الأمن والحرية والمساواة المراكز المتقدمة من حيث الأولويات على مقياس تدرج القيم، مما يؤدي إلى تغليظ القوانين وزيادة حدّتها.

عموماً، يسعى السوسيولوجي الألماني دوماً إلى إثبات أن المخاطر المعاصرة لا نهائية، وتتطلب إجراءات مواجهة لا حصر لها، وإن إدارة الأزمات بحكمة أمر مهم في التعامل مع مثل هذه المخاطر والكوارث، وتسود المخاطر وتهيمن على المجال العام، يصبح الأمن العام مُقدَّماً في أهميته على الأمن الخاص، ومن ثم يكون لسلطات الدولة الدور الغالب على غيره فتتراجع الحريات، رابطاً بين الأوبئة والعولمة، وكنتاج طبيعي لحركات التصنيع والتحديث، الأمر الذي لا يمكن أن نسلم به ل«بيك» على نحو مطلق.

هنا يعلق المفكر المصري الراحل شاكر عبد الحميد، بأن أفكار «بِيك» عامة ذات طبيعة نيوليبرالية وضد ماركسية، وانْتُقِدت مبادئه كثيراً من حيث كونها تتجاهل الواقع التاريخي للمجتمعات، فكل مبدأ منها يقوم بتمييز غير صادق (أو مُؤكَّد) بين الأنواع القديمة من المخاطر والجديدة منها، فالأوبئة القديمة وليست المعاصرة فقط ذات طبيعة مُعوْلَمة، وذلك لأن وباء الموت الأسود الذي حدث خلال القرن الرابع عشر وبعده، والذي أهلك معظم السكان في أوروبا، قد جاء من آسيا. كذلك لم يكن وباء بكتيريا الطاعون قابلاً للاكتشاف على نحو مباشر عندما ظهر في العصور القديمة والوسيطة، حتى عندما حدث ذلك لم يكن هناك إجماع عام أو نظرية حول السبب العلمي المُؤدِّي إلى المرض كما كان ذلك الطاعون ينشط على نحو مختلف، ووفقاً للطبقات الاجتماعية، حيث كان الأكثر ثروة وقدرة على الحركة أكثر قدرة على الهروب منه مقارنة بالجماهير الفقيرة المُعدَمة.

أسئلة مشروعة

عربياً، تنتشر أقسام علم الاجتماع في الجامعات العربية، وثمة عدد دارسين لا بأس به، الأمر الذي يتيح تخريج دفعات من السوسيولوجيين العرب، والمنوط بهم الوقوف أمام الظواهر المجتمعية كالتعصب وأحادية الرؤية، وتغير النسق القيمي، والتدين الشكلي، وانتشار ثقافة الاستهلاك وسيادتها، واتساع رقعة ظاهرة العنف، وغيرها من الظواهر.

هنا يتوقف الباحث التونسي مهدي مبروك أمام تصور يعتقد بأن العلوم الإنسانية والاجتماعية مرت في العقود الأخيرة بتطور مهم؛ إذ بدأت تدرس في الجامعات العربية بشكل نظري تقريباً منذ الستينيات مع موجات الاستقلال الوطني، وأُدرِجَ العديد من العلوم الاجتماعية في الجامعات، وأُسّست مراكز عدة في كثير من البلدان التي تهتم بالبحوث الاجتماعية.

ويعدد مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس هذه المراكز: منها «السيراس» مركز الدراسات الاجتماعية بتونس، ومركز الأهرام للدراسات الاجتماعية ومراكز أخرى، وجميعها استطاعت أن تنتدب نخباً قدمت من فرنسا وبريطانيا ودول أخرى، وهو الجيل الأول من الذين أسسوا العلوم الاجتماعية في البلدان العربية من بينها تونس ولبنان والجزائر والمغرب والكويت والسعودية، وعدد من العلماء، هؤلاء كلهم خريجو الجامعات الأوربية، واستطاعوا من خلال الجمع بين التدريس النظري والأشغال التطبيقية، معرفة الواقع. وفي دراسته المعنونة ب«علم الاجتماع العربي.. هل يقف عاجزاً أمام التحولات؟»، يطرح مبروك عدداً من التساؤلات حول دور علم الاجتماع في العالم العربي، من بينها: كيف يمكن لعلم الاجتماع ألا يكون مجرد تنظير يجرّ خلفه نظريات باتت مسقطة على الواقع الاجتماعي العربي، وأثبتت فشلها في تفسير الواقع وتخليصه عمليّاً من مشكلاته؟ وكيف يمكن ضخ منهج علمي ونظريات جديدة نحو مجتمع معاصر؟، وهل عالم الاجتماع مشدود إلى النظريات، أم هو مشدود إلى ضرورة إيجاد حلول لمشكلات عصره؟

كلمة السر

لا يغفل على متابع الجهد التنظيري الذي يقدمه علماء الاجتماع العرب، لكنّ الواقع يغيب عنه المراوحة بين الإنتاج النظري والتيارات العلمية في المجتمعات الغربية وواقع نظيراتها العربية، حتى لا تظل المعرفة استرجاع أو استرداد لنظريات غربية، وينتهي دور السوسيولوجيين عن التنظير واستعراض بحثي ونقل عن مدارس علمية متباينة.

«دراسة الواقع» كلمة السر التي يجب أن يهتم بها علماء الاجتماع العرب، والوقوف على قضايا المجتمع من خلال المناهج الكيفية بمعنى تحليل الظاهرة أو استعمال الملاحظة أو المحادثة وتحليل الخطاب. وإلى أن ينتهوا إلى نتائج أو توصيات، هنا يأتي دور السلطات التي بيدها اتخاذ القرار، لتحويل هذه النتائج إلى فاعلية تمرر في الواقع.

وكما يوجد دور غائب علماء الاجتماع، نعاني أيضاً غياب حلقة الوصل بين المؤسسات المعرفية وصناعة القرار في أغلب البلدان، بالتالي يصبح الجميع وكأنه يعمل في جزر منعزلة، الأمر الذي يستلزم وجود نسق حاكم وضامن لإيجاد حلقة الوصل تلك، فتستحيل الدراسات المنهجية واقعاً، أو لنقل نستفيد منها في الواقع المعيش.

أزمة عالمية

أزمة علماء الاجتماع أو تحديداً علم الاجتماع نفسه ليس أزمة عربية فحسب، فمنذ نحو 50 عاماً، وتحديداً في العام 1970، نشر أستاذ علم الاجتماع في واشنطن ألفين جولدنر دراسة مهمة عن «الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي»، كجرس إنذار يتنبأ بسقوط وظيفة المحلل السوسيولوجي. بعد أن اجتذب علم الاجتماع أعضاء هيئة التدريس والطلاب الشباب ذوي التفكير الراديكالي خاصة في الستينيات.

وبحلول مطلع القرن الحالي، كانت الأزمة قد حلت. وخضعت العلوم الاجتماعية، ابتداءً من الاقتصاد، ثم العلوم السياسية لتغيرات جوهرية؛ ويبدو أن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد ونظرية الاختيار العقلاني وتصميم البحث التجريبي كانت منتصرة ولا يزال علماء الاجتماع يبحثون عن طرق للرد.

وإذا قارن المرء اليوم علم الاجتماع بالاقتصاد والعلوم السياسية، يبدو أن السوسيولوجيا تمر بأزمة ثلاثية: أول ضلع فيها فقدان جاذبية السياسة، وثاني الأضلاع انعدام استجابة مناسبة للتحدي المنهجي من الاقتصاد، فضلاً عن ضلع الفاعلية، أي ربط المناهج الاجتماعية بالظواهر المجتمعية بالدقة نفسها التي يدرسها العلماء في الطبيعة. الأمر الذي لا يمكن لأي من «العلوم» الاجتماعية أن تفي به.

فقدان الشغف

فقدَ الطلاب اهتمامهم بالنظريات الراديكالية. وأصبح الكثير منهم محافظين، وارتابوا أكثر بشأن وجهاتهم المهنية وصناديق معاشاتهم التقاعدية. وغالباً ما تكافح أقسام علم الاجتماع للحصول على تخصصات كافية لتبرير حجم هيئة التدريس، فتلجأ إلى تقديم دورات وفصول دراسية «مثيرة» لجذب المهتمين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/w3r36be3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"