الدولة المدنية المؤجلة في السودان

00:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

منذ سقوط نظام عمر البشير في عام 2019، والغموض يكتنف مستقبل السودان، بصدد المرحلة الانتقالية، وما إذا كان الحوار بين مختلف الفرقاء المدنيين والعسكريين سيسمح ببلورة توافق وطني، لتحقيق التحوّل الديمقراطي بكلفة أقل، من خلال فترة انتقالية معقولة، يمكن للمؤسسة العسكرية أن تلعب فيها دوراً مرحلياً، أم أن الأمر سيسمح بالالتفاف على التضحيات التي بذلها الشعب السوداني، في سبيل إرساء دولة مدنية تتسع لكل مكونات المجتمع.

 وقد ظل موقف القوى السودانية، يتأرجح بين من يؤكد دوراً مرحلياً للمؤسسة العسكرية لترتيب الفترة الانتقالية بالنظر إلى تعقّد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وبين من يرفض أي دور لهذه المؤسسة، بالنظر إلى التراكمات الماضية.

 بعد النقاشات التي ركزت على تشكيلة المجلس السيادي وتوازنها، بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية والمدنية، كسبيل لتدبير مرحلة لا تخلو من تحديات وصعوبات، في إطار من الثقة، بما يدعم الحسم مع تراكمات الماضي التي كانت كلفتها خطيرة بالنسبة للسودان، ويتيح إرساء تدابير ناجعة لتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية نزيهة، في إطار من المسؤولية والحكامة الأمنية، قبل عودة الجيش إلى ثكناته. غير أن الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في عام 2021 كبح هذه التطلعات.  وفي الوقت الذي تنامت فيه المطالب الداعية إلى تسليم السلطة إلى المدنيين في أفق بناء المؤسسات، بما يوفر المناخ الكفيل بمواجهة المعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، واستثمار الإمكانات المتاحة لتحقيق التنمية، اندلعت اشتباكات بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، قبل أيام في العاصمة الخرطوم وفي عدد من مناطق البلاد، ما خلّف عدداً من الضحايا والخسائر.

 ويشير الكثير من الباحثين إلى أن الأمر تعبير عن الصراع القوي القائم بين الطرفين اللذين يتقاسمان السلطة في البلاد، وبخاصة بعد طرح مقترح يقضي بدمج «قوات الدعم السريع» داخل مؤسسة الجيش، ما أدى إلى تأجيل إبرام اتفاق مع عدد من القوى المدنية، على طريق وضع خريطة طريق تخرج السودان من مرحلة الانتظار.

 وتبرّر «قوات الدعم»، المشكّلة في غالبيتها من عناصر شبه عسكرية مكونة من «ميليشيات الجنجويد» التي كانت تقاتل بالنيابة عن الحكومة السودانية في فترة الحرب في دارفور، توجهاتها بمواجهة «الانقلابيين» و«استرداد حق الشعب في الحياة والعدل والديمقراطية»، وهي القوات التي تقوّت، بعد انخراطها في مواجهة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد.

 وقد أجمعت الكثير من ردود الفعل الدولية والإقليمية، على رفض القتال، مع الدعوة إلى وقف إطلاق النار والعودة إلى الحوار، وهو ما عبّرت عنه مجموعة من الجهات، كجامعة الدول العربية ومعظم الدول العربية والولايات المتحدة وأوروبا والصين، كما حذّرت الأمم المتحدة من التداعيات الإنسانية الكارثية، لهذه الأحداث، مع سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، ودعت الطرفين إلى الوقف الفوري للقتال.

 إن ما تشهده البلاد من تطورات خطيرة، يمثل ضربة قوية لكل الجهود التي بذلت على امتداد السنوات الأخيرة، في سياق محاولة نقل السلطة إلى المدنيين، وعملاً محبطاً لكل الآمال التي كان يعلّقها المواطن السوداني على المرحلة الانتقالية، كجسر نحو إرساء الممارسة الديمقراطية في البلاد.

 يبدو مستقبل السودان في ضوء الأحداث الميدانية؛ غامضاً ومنفتحاً على كل الخيارات الصعبة والقاسية، مع إصرار الطرفين المتصارعين على مواقفهما، وتبادل الاتهامات بصدد المسؤولية عمّا وصل إليه الوضع، ويزداد الأمر خطورة مع وجود قوى إقليمية ودولية تتحين الفرص، لتأجيج هذا الصراع خدمة لمصالحها وأجنداتها.

 بين الموجة الأولى لما يسمى «الربيع العربي» التي بدا فيها الإسلاميون كمستفيد وحيد من حيث الولوج إلى السلطة، يبدو أن الموجة الثانية لهذا الحراك والتي تجسّدها التجربة السودانية، هي عسكرية بامتياز، مع بروز الجيش كفاعل قوي في تدبير ما بعد الحراك، واستمرار الانتكاسات والإحباطات، ما يجعل من إرساء أسس الدولة المدنية في هذا البلد مؤجّلاً إلى أجل غير مسمّى.  إن التأخر أو التردّد في إرساء توافقات داخلية، تسهم فيها قوى دولية وإقليمية بحسن نية، تدعم الحسم مع اختلالات الماضي، وتنحو إلى إرساء دولة مدنية مستقلة تتسع لكل مكوناتها الاجتماعية بأطيافها المختلفة، سيفرغ الجهود والتضحيات التي بذلت على امتداد السنوات الأخيرة من أهميتها، ويتيح الفرص لتهافت إقليمي ودولي مكلّف، يمكن أن تتحوّل معه السودان إلى دولة فاشلة، وجاذبة للجماعات الإرهابية، ما سيعقّد الأوضاع في البلاد، بل وفي المنطقة برمتها من جديد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/v8j2y35y

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"