في الإجلاء جلاء

00:47 صباحا
قراءة دقيقتين

وليد عثمان

يبدو أن التهدئة التي كانت مأمولة في السودان حتى ساعات مضت، أكلتها ضراوة المواجهة الآخذة في الحدة والاتساع بكل الصور، بما في ذلك التراشق الإعلامي الذي ارتقى من بث الفيديوهات المبرهِنة على سيطرة هذا الطرف، أو ذاك، والمُعدّدة لخسائر أو مكاسب مزعومة، إلى شكل أكثر وضوحاً وتقليدية.

 ولعل الحوارَين المنفردَين اللذين تواجَه عبرهما قائدا المكوّنين المتحاربَين على شاشة قناة إخبارية، بينما السودان غارق في عيد دموي، أجهزا على كل رهانات الاكتفاء بالجولات الأولى من الاقتتال، وبدّدا كل أمل في أن تصمت لغة الحرب، ويعلو عقل ينتبه إلى ما يحيق بالسودان والسودانيين.

  ليس أمل السودانيين وحده الذي ضاع، بل العالم كله الذي بدا له جلياً، أن أمد المعارك السودانية –السودانية سيطول، فبدأ بالإسراع بإجلاء رعاياه بكل السبل الممكنة.

 باستثناء واقعة الجنود المصريين التي فرضت، لأسباب كثيرة، سرعة حلّها، لم تبدِ الدول، عربية وأجنبية، تعجلاً في بداية الأزمة في إجلاء رعاياها، بل بدا غريباً إعلان بعضها أن الأمر يحتاج إلى ترتيبات لم تتضح لديها بعد.

  ولم تمض أيام حتى رأينا تسابقاً في إنقاذ الأجانب من نيران المعارك، وتنسيقاً بين الدول في هذا الشأن لا يقتصر على الدبلوماسيين أو موظفي الجهات الأممية والإقليمية السياسية والإنسانية، بل شمل كل الرعايا، باختلاف أسباب وجودهم في السودان.

  لا بدّ أن جهوداً ما تبذل لوقف المأساة السودانية لا يمكن الوقوف على تفاصيلها كاملة الآن، لكن في تسارع وتيرة الإجلاء ما يقول بجلاء إنه لا حلّ وشيكاً للصراع، بل استيقن معه غير العالِمين بمسارات هذه الجهود أنه قد يتوسع.

  وحتى المطّلعون على التفاصيل والمبادرون إلى جمع الطرفين المتحاربين حول طاولة تفاوض بأي شكل، يبدو أنهم أدركوا استحالة ذلك، فكان الإجلاء على النحو الذي نراه.

  سيذهب الأجانب ويتركون السودانيين وقوداً محلياً خالصاً للحرب، لينفتح قوس جديد للمعاناة التي تستعصي في بعض أوطاننا على الانغلاق، ويذوق السودانيون مفردات القاموس المُرة بين قتل، وجرح، وتشريد، ونزوح، ولجوء وفقدان الثقة بأي شيء، وكل فريق يحتكر الحديث باسمهم، ويدّعي وصلاً بحاضرهم ومستقبلهم.

  من أسفٍ أنه لا أمان سيرافق من نزحوا إلى مناطق سودانية لم تبلغها بعد نيران المواجهات، فلا ضامن لوقوفها عند مدى بعينه. وربما يلحق هؤلاء بالآلاف الذين فروا بأنفسهم وأسرهم إلى دول مجاورة، إذ يحصي بعضهم عشرات الآلاف من السودانيين الذين لاذوا بدولة جارة واحدة هي تشاد، على خطى مئة ألف آخرين يقيمون فيها منذ أحداث دارفور.

  وإذا تيسّر للراغبين في الفرار طريق إلى دول أخرى غير تشاد، فلن يترددوا في قصدها، وساعتها لن يبقى في السودان إلا من أعيته حِيل المغادرة، وما أقسى أن تعيش، أو تموت، في وطنك، إن بقي كما نشتهيه جميعاً، مضطراً عاجزاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr36pj9f

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"