عادي
الصوت صدى الروح

أبعد من الكلام

23:21 مساء
قراءة 7 دقائق
1

محمد إسماعيل زاهر

للصوت جماليات شديدة الخصوصية بالنسبة للبشر، لكل حالة نفسية صوتها الداخلي الخاص، ولكل موقف في الحياة صوت، لقلبك صوت لا يسمعه أو يحاوره إلا أنت، ولضميرك صوت تنصت إليه في لحظات لا يشاركك فيها أحد، لكل فترة عمرية نبرتها المميزة، بريئة في الطفولة ومتمردة في المراهقة ومتوثبة في الشباب وحكيمة في النضج والشيخوخة.

الكتابة بصفة عامة أو الإبداع الحقيقي صوت فردي لا يتشابه مع صوت آخر. ولا يقتصر الصوت على الإنسان، ولكن للطبيعة أصواتها التي لا يمكننا تصورها بدونها.

يعلو الصوت فيتحول إلى ضجيج ودوي، وينخفض فيصبح همساً ووشوشة، وبينهما نتعلم وننطرب وتدخل آذاننا إلى آفاق لا نهاية لها.

الصوت ضد الصمت والسكون والموت كذلك، هو رديف الحياة، وأكبر وأبعد من الكلام والحديث، هو ببساطة صدى الروح.

هل فكرت يوماً في أنك صوت لا أكثر، لا تتمتع بأي فرادة إلا من خلال صوتك، قديماً قال سقراط لأحد تلاميذه «تكلم حتى أراك»، لم يكن الهدف هو الكلام، أو معرفة ما يفكر فيه هذا التلميذ، وإنما معرفة كينونته.. ماهيته على وجه الدقة. يعكس صوتنا ليس شخصيتنا التي نودّ أن نواجه الناس بها، ولكنه يعرينا أو يفضحنا على وجه الدقة، يبرز مشاعرنا بالتفصيل، فلكلّ إحساس صوتٌ، ولكل موقف نبرة مختلفة، ولكل مقام نغمة. صوتك عند الغضب ليس هو عند الهدوء، يختلف بالتأكيد في الحوار، يعلو في الشجار ويصل إلى درجة الصراخ، يخفت في الحب ويتحول إلى همس، يتوقف عند التأمل أو التفكير، ولكن عقلك لا يصمت يظل يحاورك، أما ضميرك فربما يؤنبك بصوت زاعق أعلى من الصراخ.

صوتك في الطفولة ساذج منطلق مفعم بالإقبال على الحياة، صوتك في المراهقة مندفع خشن، صوتك في الشباب حيوي خلاق متصل لا يعرف التعب أوالملل. عندما يتمهل صوتك ويصبح صدى لعقلك فأعلم أنك على عتبات النضج. صوتك في الصباح يعبر عن عودة دورية إلى الحياة..صوت يتلمس يقظة النهار، أما صوتك في الليل فوشوشة تستبق الهدوء، أما صوتك خلال النوم فمكبوت لا يعكس أي ثبات نفسي، صوتك في الصحة ممتلئ ثقة وكأنك تملك العالم بأسره، وصوتك في المرض واهن وضعيف وهشّ يتماهى مع حالة جسدك، وضحكك الذي يتحول إلى قهقهة لن يغنيك عن صراخك عند الألم.

الصوت لا ينبع منك فقط، ولكنه يأتي من الخارج ويؤثر فيك، هناك صوت يصيبك بالخوف..بالرعب، صوت ينبهك إلى خطر أو شيء مقبل عليك، صوت يمنحك بهجة، وآخر يصيبك بالشجن، صوت يأمرك وينهيك ويوجهك، صوت يعاتبك أو يلومك، الصوت هنا يضعك في حالة محددة: أنت في خطر، أنت تعيش لحظة بهجة، أو دقيقة شجن، أنت معنف أو معاتب أو ملام.

قال ماكس بيكارد يوماً «العشاق هم متآمرو الصمت»، ولكن هل نصمت في العشق، ينخفض الصوت، وربما يتلاشى، ولكن لغة العيون صاخبة، ولغة الحواس ضاجّة، الجسد هنا هو مدار الصوت، في لحظة العشق، يصبح جسدك أسيراً لكل طرق عنيف، قلبك، حواسك: الشم..اللمس..التذوق..النظر.

النشوة حالة تخاصم الهدوء، ولكلٍّ نشوتُه، حتى المتصوف، هناك ارتعاشات حادة تلعب بروحه، يقول محيي الدين ابن عربي: «كل شوق يسكن باللقاء لا يُعوّل عليه»، لا يعرف الصوفي السكون، هو في حال تحليق دائم، هو يقترب ويبتعد، يتصل وينفصل، يصحو ويغفو، ولكنه لا يصمت أبداً حتى في أحلامه ومناماته وهواتفه..الصوفي صوت مطلق، لا تسمعه، وإذا أفصح وأظهر صوته فاعلم أنه صوفيّ لا يُعوّل عليه.

تنصت

صوت اللاأخلاقي زعيق ينتاب الروح، هو يفكر على مدار الساعة كيف يستغل ذكاءه في إيذاء البشر، صوت تودّ لو تأمره بأن يخرس. صوت الأخلاقي مراجعات مستمرة لما فعله طوال اليوم، الأخلاقي الحقيقي لا يعرف صوته نبرة الندم، والمزيف وحده هو من يمنّ على الناس بأخلاقه، صوت المزيف ينطبق عليه المثل: «إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب».

الصوت حميمي في هدهدة الأم، في نبرة الحب، في الصدق والحديث الأمين، ومزعج تنفر منه الروح في الكذب، وفي الأمر بالقتل، وفي التعذيب، وفي التنصت على الآخرين ومراقبتهم. الصوت حماية عندما كنا نجتمع متجاورين ونتحدث معاً خلال أزمنة كانت تشهد انقطاعات متكررة للكهرباء، الصوت ونس لمن يسير في طريق مظلم أو معتم، الصوت أنيس لمن يعيش بمفرده، قبل الهاتف المحمول و«التابلت» كانت أمي تترك التلفاز مفتوحاً طوال ساعات الإرسال حتى لو لم يجلس أحد الأبناء للمشاهدة، الصوت هنا يمنح حياة للمكان، أو كما كانت تقول:«بيخلّي البيت له حِسّ».

لا يبحث الكاتب أو الأديب الحقيقي طوال عمره إلا عن صوته الخاص، هو يختبر اللغة دوماً، يكتب ويقرأ، يكتب ويمحو، يحاور نفسه، فالأفكار كما قيل في التقليد المملّ على قارعة الطريق، أما الصوت فمخفي، يحتاج إلى اكتشاف، أو اختراع، يتطلب شغفاً، بما تكتبه، يتطلب تناغماً بين لسانك وأذنك وبصرك، فاللغة مسموعة ومنطوقة ومقروءة.

«المفكرون هم متآمرو الصوت»، إذا سرنا على درب بيكارد، التفكير حالة من دويّ الصمت، تعلو إلى الصخب في الأيديولوجيا، حتى يساوي الكلام الحياة نفسها، وتهبط إلى الاستماع إلى أصوات العالم لدى الفيلسوف، حالة تعلو مع الآراء الإنسانية التي تنفع وتبقى وتشدنا إلى الأمام، وتهبط حتى الخرس برغم ارتفاع نبرتها في الوعود المؤدلجة والشعارات الرنانة الفارغة من كل معنى، حالة ترتفع إلى الكلمة الطيبة التي تتجذر في الأرض، وتهبط برغم صراخها لتخرج من أفواه لا مجدية صنعتها تشييد الأوهام. فالشعارات صراخ نقيّ.

النصر مصنوع من صرخة، النصر في الحرب..في المباراة..في الاختبار..في الحياة..كلها أحداث يرتفع فيها الصوت الصاخب، لإخافة العدو أو الفريق الخصم أو شد أذر الذات، وتنتهي بصرخة توفيق أو سداد أو نجاح. أما الهزيمة فصراخ ولكنه داخلي يمتزج بمرارة وحساب للذات، كان عليّ أن أفعل كذا وكذا. أما صرخة الحياة الأولى عندما نولد فلا أعرف الآن هل كانت صرخة نصر أو هزيمة أو إعلان وجود، فالحياة نفسها ليست نصر مطلق أو هزيمة على طول الخط أو إعلان ما هو معروف أصلاً، وجودك، لماذا يصرخ الوليد؟. في كل الحالات يعتبر الصراخ همزة وصل تذكرنا بأصلنا الحيواني.

كيف كان يتكلم آدم؟، ماذا كانت لغته؟، هل كانت اللغة الأولى مجرد همهمات وأصوات تطورت بعد ذلك إلى حروف ذات مخارج نطق وألفاظ، تحولت لاحقاً إلى كتابة؟، ولماذا هذا الحيز الواسع من الحرية أو الفوضوية للبشر في الصوت، فاللغة، أي لغة، لا تتطابق في نطقها مع الحروف المكتوبة، ولماذا هناك بعض الأصوات التي ننطقها ولا نستطيع كتابتها في شكل حروف؟، الصوت أكبر من اللغة وأوسع من الكلام، ولا يحتويه النطق.

نحن نقول عن صوت الماء، خرير، ولكن هل تتماثل الكلمة في نطقها مع صوت الماء حقيقة، والحال نفسه مع أصوات الطبيعة والكائنات كافة، فصوت الديك تلك الذكرى التي تداعبنا جميعاً لحظة الفجر، ونطلق عليها صياح الديكة، ضئيلة جداً في رسمها الكتابي مقارنة بصوت الديكة حقيقة، وقس على ذلك صوت البحر أو صوت النهر، والرعب الذي ينتابك مع التسونامي أو زئير الأسد أو فحيح الأفعى.

لا تصمت الطبيعة أبداً، ووفق الفيزياء فهناك مئات الأصوات التي لا نسمعها، فالأذن البشرية ليست مصممة لالتقاطها، والطيور والحيوانات والحشرات ليست هي الوحيدة التي تنطق أو تصوت أو..أو..، ولكن لكل ساعة في اليوم صوتها الخاص، ولكل فصل في العام، وللصباح والليل، فالرياح والنسيم أصوات تذكرك أنه لا يوجد صمت إذا سكتت جميع الكائنات.

درجات

لكل بيئة جغرافية درجة صوت خاصة، ففي المدينة أصوات البشر هامسة أو صاخبة، تتداخل مع أصوات السيارات والقطارات والمصانع والأسواق، وكلما تزايدت معدلات التحضر أو التنظيم أو القانون انخفضت نبرة الصوت، والعكس بالعكس، أما طريقة نطق أهل المدينة للغة؛ فرقيقة، وصوت اللغة نفسه ينسرب إلى أذنك بيسر وسهولة، ومخارج الألفاظ واضحة وبينة. في الريف يسود الكثير من سكون الطبيعة ولذلك تبدأ نبرة صوت الإنسان في الارتفاع، ويتسم نطق بعض حروف اللغة بالخشونة أو الجلافة بحسب قرب أو بعد القرية عن المدينة. في البيئة الساحلية يختلف الحال، هل هي مدينة ساحلية صاخبة أم مجرد قرية للصيادين، وتمتزج مخارج الحروف ببعض أصوات البحر، وغناء الصيادين لدفع وحشة البحر وظلماته، بعكس غناء العمال الذي يهوّن مرور الوقت. في الغابة تتعدد الأصوات ونشعر كأننا في حضرة فرقة موسيقية أو أوركسترا سيمفونية. في الجبل ترتفع نبرة الصوت بسبب المساحات الواسعة الفارغة.

في الصحراء لا يمتلك الإنسان إلا الشعر، لا صوت يصحبه في هذا الفراغ ليغني على موسيقى البحر كالصياد أو أدوات الشغل كالعامل، هو في مواجهة الصحراء وحده لا شيء يسليه أو يعزيه أو يحميه وحشة الليل إلا الشعر.

ماهي الموسيقى؟، هل تستطيع تعريفها؟، الإمساك بصوت آلة ما ووصفه بدقة كأنك تشاهده، كل صوت لا يمكن رسمه، إن وجهك في كل الأحوال هو وجه واحد، ربما تجلس أمام أحدهم ليرسمك، تختلف ملامحك بالطبع عند الضحك أو البكاء أو..أو، ولكن هذا التعدد ضئيل جداً أمام قدرة الصوت اللانهائية على التعدد، وتغيير النغمة والطبقة والمقام، هل استمعت إلى هذا المقطع الغنائي الذي ردده هذا المغني أو تلك المطربة بعشرات الأساليب، أو تلك الآية التي رددها هذا المقرئ بأكثر من أسلوب.

ليست الموسيقى فقط هي ما نستمع إليها منفردة أو مغناة، عبر أدوات تقلد أصوات الطبيعة، ولكن لكل شعر موسيقاه ولكل لغة وحتى لوجدانك موسيقى خاصة، ولعل أول من ابتكر الموسيقى المصاحبة للأفلام طرح على نفسه أولاً سؤالاً: لماذا لا نستطيع الإمساك بالموسيقى؟، ثم استمع إلى موسيقاه الداخلية ثانياً.

الغناء آخر ما تبرع فيه الحضارة عند الوصول إلى ذروتها، وتراجعه أول علامة على انهيار تلك الحضارة، كما ذهب ابن خلدون، والغناء صوت البهجة، وفردية مطلقة، سواء من المغني أو المستمع، ويساوي الحس السليم، ولذلك يقولون في العامية عن صاحب الصوت الجميل «حسه حلو».

نهايات

قال الفيلسوف الفرنسي دافيد لوبروطون يوماً «خلق العالم من صوت»، وفي القرآن خلق العالم بكلمة «كن»، وينتهي بصيحة، وستقوم القيامة بالنفخ في الصور، ومشاهدها بأكملها ليست إلا أصوات في مداها الأقصى، انفطار السماء، نسف الجبال، زلزلة الأرض، بعثرة القبور..الخ.

حياة ضاجّة
نحن لسنا أكثر من مجرد صوت، والصمت ليس نقيض الصوت.

الصوت هو الحياة، وعندما يصمت قلبك تموت. ولا يوصف بالصمت، على وجه الحقيقة شيء، إلا القبور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/9pukxp9a

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"