عادي
الصوت صدى الروح

ضد الصمت

23:14 مساء
قراءة 7 دقائق

يوسف أبولوز

للصوت جماليات شديدة الخصوصية بالنسبة للبشر، لكل حالة نفسية صوتها الداخلي الخاص، ولكل موقف في الحياة صوت، لقلبك صوت لا يسمعه أو يحاوره إلا أنت، ولضميرك صوت تنصت إليه في لحظات لا يشاركك فيها أحد، لكل فترة عمرية نبرتها المميزة، بريئة في الطفولة ومتمردة في المراهقة ومتوثبة في الشباب وحكيمة في النضج والشيخوخة.

الكتابة بصفة عامة أو الإبداع الحقيقي صوت فردي لا يتشابه مع صوت آخر. ولا يقتصر الصوت على الإنسان، ولكن للطبيعة أصواتها التي لا يمكننا تصورها بدونها.

يعلو الصوت فيتحول إلى ضجيج ودوي، وينخفض فيصبح همساً ووشوشة، وبينهما نتعلم وننطرب وتدخل آذاننا إلى آفاق لا نهاية لها.

الصوت ضد الصمت والسكون والموت كذلك، هو رديف الحياة، وأكبر وأبعد من الكلام والحديث، هو ببساطة صدى الروح.

أوّل ردّ فعل يقوم به الإنسان لحظة ولادته وقبل قطع حبل سرّته وانتهائه تماماً من الإقامة التي تبيّن أنها مؤقتة في الرحم الأمومية الدافئة هو إطلاقه تلك الصرخة التي هي الإشارة الأولى على أنه كائن حيّ، لكن علينا هنا أن ننتبه جيداً لهذه الصرخة الأولى من حيث الهوية الجنسية أو الجندرية، فهي صرخة الكائن البشري الأولى لحظة خروجه من ظلام الرحم إلى نور الحياة، وهي صرخة الذكر كما هي صرخة الأنثى، ومن المهم القول هنا إنه لم يثبت طبياً ولا علمياً حتى الآن في حدود قراءاتي على الأقل ما إذا كانت صرخة المولود الذكر مختلفة عن صرخة المولودة الأنثى أو بالإمكان التمييز بين الصرختين.

إنها الصرخة الأولى والصوت البشري الأول الذكري والأنثوي معاً، كما لا يمكن لممرضة أو قابلة وقفت على ولادة سيدة أن تعلن أن المولود ذكر أو أنثى إلاّ بعدما تعاين هذا الكائن الذي ترك وطنه الأول كما يقولون بعد تسعة أو سبعة شهور فقط من النوم اللذيذ في هيولى حلمية رومانسية وربما سوريالية وسط ذلك الأوكسجين النقي والماء الهيولي الرائع الذي يسبح فيه الكائن الإنساني بلا معرفة مسبقة، ثم في وطنه ذاك ينعم بالدفء والأمن والأمان والحرية الاستقلالية تماماً التي تمثلها وحدته أو عزلته السيادية في رحم أمّه التي كانت تتنقّل به من مكان إلى مكان، وتنام به أو ينام فيها وهي راضية مرضية، وهكذا، وإذا به فجأة يغادر هذا النعيم الرحمي السائلي، ويخرج إلى أرض البشر، فيطلق أوّل صوت، عفوياً، وتلقائياً، وإشارياً أيضاً، فالصوت إشارة على أنه حيّ، وما من جنين يولد وهو صامت، فإذا لم يسمع الصوت، فإن الفكرة الوحيدة في لحظة الولادة تلك هي فكرة الموت، أو صورة الموت.

(1)

في اللحظة التي يصرخ فيها المولود بصوته الأوليّ هذا. صوت الأنثى وصوت الذكر بلا فرق أبداً. في هذه اللحظة تكون المرأة قد انتهت من آلام الوضع، وكانت هي قبل لحظات في أثناء الطلق بين الحياة والموت، كانت تصرخ هي الأخرى، ولكن صرختها صرخة أنثى تتحوّل عبر الألم إلى أم، وبصوتها المخنوق تحاول لملمة هذا الوجع الذي تعرف تماماً أنه سيختفي كلياً مجرّد أن يخرج المولود إلى النور، ويطلق صوت الحياة، وبكلمة شعرية ربما، إن تلك الصرخة هي صوت الحياة، وفي المقابل، إذا ما هَمَدَ صوت المرأة في أثناء محنة طلقها أو وضعها لجنينها فإن صوت صرختها المتلاشي والمنتهي تماماً في الصمت يكون بلا شك صوت الموت، وكم من سيدة لقيت حتفها أو لقيت وجه ربّها وهي في لحظة ولادة.

(2)

يطلق القرويّون وصفاً على الصوت جديراً بالوقوف عنده وتأملّه، فالصوت في اللسان الشعبي هو «الحس».. يقول القروي أو الريفي لصاحبه أو لابنه: «وَطّي حسَّك» أي اخفض صوتك، وتسارع المرأة في الأرياف إلى تنبيه جارتها أو ابنتها إذا ما مرّ رجل غريب بالقرب منهما بقولها: «وطّي حِسَّكْ» أي اخفضي صوتك، فالصوت «حسّ» أو هو، أي الصوت، «مادّة حسيّة» ومن باب التداعيات اللحظية.

(3)

في الأرياف أيضاً، أو لنقل عند ظهور الإذاعة كان الصوت الخارج من الراديو يشكل خدشاً لحياء النساء. إنه صوت المذيع، ذاك الصوت الرجولي الممتلئ والمباشر و«الغليظ». فما إن تسمع المرأة صوت الرجل، وهو صوت أثيري غير مرئي صاحبه أو مصدره، حتى تسارع إلى تغطية وجهها بطرف طرحتها وهي تغمغم.. «يا عيب الشوم..»، لكن، كانت تلك الحالة الصوتية مجرد حالة عابرة، فبعد قليل من الوقت أو قليل من السنوات توسعت ثقافة الصوت الإذاعي «الرسمي» أو «الوظيفي»، وما عاد ذلك الصوت الآلي خادشاً للحياء كما سمع للمرة الأولى في الإذاعة، لا بل أصبح الصوت ملازماً للصورة عند ظهور التلفزيون، بل الصورة تبدو وكأنها أزاحت ذلك الصوت، ونزعت عنه إحالاته الحسيّة «الغليظة» أو الذكورية، وصارت الصورة، بخاصة الصورة الملوّنة هي الغطاء الكليّ للصوت.

صار الصوت عند ظهور التلفزيون خلف الصورة على نحو ما، وما عدنا نتخيل الصوت ومصدر الصوت في حالة الإذاعة، ففي حالة التلفزيون ثمة صوت وصورة، لا بل صوت أقل إن أمكن القول، وصورة أكثر بل صور أكثر، ولكل صورة صوتها ولونها، وهويتها الجغرافية بل وهويتها الأيديولوجية.

(4)

بين صوت الإنسان وصوت الذئب في البرّية الموحشة ثمة «صداقة» ضمنية تتشكل من خلال حاجة الإنسان إلى الذئب، وفي المقابل حاجة الذئب إلى الإنسان.. «في الحالة الثنائية هذه، أي حاجة الذئب إلى الإنسان تظهر صورة الدم وصورة الموت. إن الذئب في حاجة للإنسان ليس ليواسيه في محنته البرّية، بل الذئب حاجة للإنسان لكي يأكله..

أردت ببساطة الإشارة إلى صوت الإنسان، وصوت الذئب، في بيت الأحيمر السعدي.. يقول:

عَوَى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذْ عَوَى

وَصَوَّت إنسان فكدتُ أطير

.. تلك هي، إذاً، حاجة الإنسان للذئب. إنها حاجة استئناس، فما إن عوى الذئب حتى استأنس الإنسان بهذا العواء.. العواء ذاته الذي هو صوت الحيوان البرّي الافتراسي، ولكن الإنسان في برّيته المطلقة هذه، هو في حاجة إلى صوت.. أي صوت، حتى لو كان صوت ذئب، فما بالك إذا كان صوت إنسان.

صوت الإنسان هو الطمأنينة الممكنة التي يستشعرها المرء إذا كان في حالة وضع الذئب، ففي البرّية الموحشة يجعل الصوت الإنسان كائناً طائراً.

يطير الإنسان بصوت الإنسان، كناية عن الفرح، فإذا سمعت صوت أبيك أو أمك أو أختك أو أخيك بعد فراق طويل فأنت طائر.

طار العربي بشكل خاص بأصوات مغنّين، وسياسيين، وحزبيين، وأيديولوجيين، وعقائديين، ورجال مسرح ورجال دين.. إلى آخره من الأصوات العظيمة، الجهورية، المنبرية، الخطابية، بخاصة في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين.

كان صوت أحمد سعيد الإذاعي كافياً لرفع المعنويات السياسية عند المواطن العربي إلى درجة الامتلاء الوطني الكلي بالرموز التي اتكأ عليها صوت ذلك الإذاعي المصري.

كان، وإلى الآن، صوت رجل دين أياً كان في العالم، وأياً كانت ديانته وملّته العقائدية، والطائفية والمذهبية كفيلاً باقتحام الشوارع والساحات من جانب الجماهير الشعبية المتحفّزة والمهيأة لأي عنف أو حتى لأية حرب أهلية مجرّد سماع الصوت المحمّل بالأيديولوجيا والمعُتَقَد والطائفة.

كان صوت عبد الناصر قوياً، نافذاً، بلاغياً، خطابياً تماماً. إقناعياً تماماً، وتماماً كان صوتاً زعيمياً مهيمناً على الأذن العربية من المحيط إلى الخليج كما يقولون، وكان في موازاته على نحو ما صوت أم كلثوم المهيمن هو الآخر على السمعية العربية العامّة: صوت قويّ، كاريزمي، شعبي ورسمي في آن واحد. صوت السيدة. صوت «عظمة على عظمة على عظمة يا ست» تدوخ به الملايين مدة ساعة كاملة عصر كل يوم عند الساعة الرابعة بعد الظهر.

أصوات أخرى عربية لا تقل عظمة عن صوت أم كلثوم كانت هوية سمعية، وثقافية، بل وسياسية أحياناً للعرب في مرحلة من مراحل إصغائهم المركّز لصوت المغني، وصوت الزعيم، وحتى صوت الطاغية، وعند هذا الحدّ من تتبّع خريطة الصوت، لا بدّ لي ولك من الذهاب إلى ماكس بيكارد.

(٥)

إن الصوت البشري يُطَيّر من الفرح ومن الطرب ومن الامتلاء العاطفي بالوطن والوطنيين، ولكن الصوت البشري أيضاً هو صوت الطاغية، وصوت الكذاب، وهو طبقات وطبقات من المحمولات القيمية والأخلاقية، الصوت ظاهرة مركبة من عديد الظواهر، ولن تكتمل أية كتابة اجتهادية كهذه عن الصوت، إلاّ إذا كانت اكتملت بماكس بيكارد.

ولد ماكس بيكارد، كما جاء في مقدّمة كتابه «عالم الصمت» في ٥ حزيران ١٨٨٨ في شوفهايم، وتوفي في ٣ تشرين الأول عام ١٩٦٥ في سورونجو في سويسرا.. ونعرف من كتابه «عالم الصمت» أنه درس الطب إلا أنه تركه ولم يمارسه «.. وتفرّغ لفهم عذابات الإنسان ومصائبه الرّاهنة..».

وضع ماكس بيكارد كتاباً آخر هو الإنسان واللغة، يتحدث فيه أيضاً عن «الصمت» نقيض الصوت، لكن اللغة هي محور هذا الكتاب المهم الذي نتعرّف فيه أيضاً على أفكار بيكارد حول الصوت.

للصوت علاقة بالجسد. والكثير من حركات الجسد مرتبطة بصوت الإنسان.. ويذهب بيكارد أولاً إلى جسد الإنسان البدائي، يقول: «يحرّك الإنسان البدائي جسده بطريقة أعنف من الإنسان المتحضّر. إنه متأثر أكثر بفعل الكلام وجسده كلّه مشارك في الجهد ليشارك في وحدة الروح والصوت».

أما الصراخ الذي بدأنا به هذه المادة حول الصوت، فإن بيكارد يرى أن الصرخة التي تفرّ من إنسان ما في الخوف. أو الألم المباغت، هي كما لو أنه يحاول أن يغرق نفسه في الصوت المادي للصرخة.

ولكن ماذا عن صوت الديكتاتور، وصوت الكذّاب، وماذا أيضاً عن أصوات المجانين؟.. الجواب عند ماكس بيكارد.. يقول.. «..الصوت الصارخ هو نتيجة ذاتية مفرطة، وصوت الديكتاتور الصارخ محاولة لتدمير الصوت والموضوعية التي يمثلها الصوت الكاذب يتحدث بنعومة ليخفي صوته أو يصرخ ليقمع موضوعية العالم التي صدر منها، وكلما كذب الشخص أكثر في حياته، كان النزاع أعظم بين الصوت واللغة.. اللغة تصبح فارغة..». أما أصوات المجانين.. فلا يبدو أن لها وجوداً متواصلاً، فهي تبدو كأن الصوت مُقنّع من جديد لكل كلمة..».

شبكة هائلة من الأفكار تتقاطع فيها اللغة، والصوت، والصمت عند ماكس بيكارد.. اقرأه، إذا أردت، ولكن قبل وبعد ذلك، اعرف صوتك منذ الصرخة الأولى.. ربما لكي تعرف العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/dkzwhxx7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"