الحريات الأكاديمية والمعرفة النقدية

00:42 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

تحيل الحريات الأكاديمية إلى تحرّر الباحث والكاتب من كل الشروط والضغوط المختلفة التي يمكن أن تقيد أعماله البحثية والفكرية ونتائجها، ما يؤثر بالسلب في موضوعيته في هذا الشأن، وهي تقوم بذلك على حرية الفكر وعلى حقّ الباحث والكاتب في التحليل والنقد، والقيام بمختلف المبادرات المرتبطة بهذا الشأن بكل أريحية، وقد أضحت الحريات الأكاديمية عرفاً متداولاً ضمن ممارسات الأنظمة التعليمية المعاصرة في عدد من البلدان الديمقراطية. وهي ترتبط أيضاً بالانضباط لمتطلبات الأمانة العلمية، وما يتصل بها من موضوعية في كشف الحقائق، واحترام أخلاقيات البحث العلمي، وإلى استقلالية وحرية الفضاء الجامعي بكل مكوناته في تدبير شؤونه المختلفة والحق في التعبير عن الرأي وفي الولوج إلى المعلومات وحرية الضمير.

وقد برزت الحريات الفكرية كرد فعل على الهيمنة، التي كانت تفرضها الكنيسة خلال القرون الوسطى على الحياة العامة وعلى الحجر الذي كانت تمارسه ضد الفن والعلم والاجتهاد في مختلف المجالات والميادين. وتستمد هذه الحريات مرتكزاتها ومشروعيتها من الدساتير والتشريعات الداخلية، ومن مختلف المواثيق والقوانين الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان وعلاقة ذلك بالحق في التعليم، والحق في حرية الفكر والرأي والتعبير.

لا يتطور البحث العلمي والإبداع الفكري والفني؛ إلا في مناخ تطبعه الحرية والديمقراطية، فقد أثّرت الظروف السياسية في عدد من دول المنطقة العربية سلباً في أداء منظومتي التعليم والبحث العلمي، وفي الإنتاج الفكري والفني بشكل عام، ذلك أن المركزية المفرطة في تدبير الشؤون العامة ورفض أي تغيير، أسهما بشكل كبير في تهميش إسهامات الباحثين والمفكرين والمبدعين في تنوير المجتمع، وفي إرساء تنشئة اجتماعية تؤمن بالعلم، ومعرفة نقدية قادرة على تسمية الأمور بمسمياتها، وفي المساهمة في تعزيز جهود التنمية المستدامة، بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ حيث حرصت هذه الدول على إرساء سياسات عامة، وسن وتشريعات تكرس علاقة الشكّ والحذر بين صانع القرار من جهة، والمفكرين والباحثين من جهة أخرى.

تزايدت التقارير والتصنيفات الدولية التي تضع الجامعات ومؤسسات البحث العلمي في عدد من دول المنطقة في مراتب متدنية من حيث مناهجها ومضامينها ومخرجاتها، مقارنة مع نظيراتها في عدد من دول العالم، بينما شهد مستوى نشر الكتب تراجعاً كبيراً، وتحوّلت بعض النخب إلى أصوات لإعادة إنتاج الخطابات الرسمية أحياناً، وتبريرها أحياناً أخرى، فيما لاقت نخب أخرى كل مظاهر التضييق، وعانت ويلات التهميش والتعسف والاعتقال أحياناً، ولم تتح لأفكارها الانتشار.

إن المعرفة النقدية هي تجسيد عملي لحرية الرأي والتعبير، وبوابة لتطوير العلوم وتشجيع الفكر، وإرساء اقتصاد المعرفة، فالإبداع لا يقترن بالاستبداد وسيادة الرأي الواحد. وترتكز هذه المعرفة على 3 أسس، أولها، المناخ العام بشروطه القانونية والسياسية والتربوية والمادية الداعمة للاجتهاد، والمنفتحة على كل ما هو جديد ومفيد، إضافة إلى مجتمع منفتح على المستقبل، ومؤمن بأهمية التغيير وبانعكاساته على التنمية، كما تتطلب من جهة ثالثة، وجود مبدع متحرر من كل القيود والضغوط التي تعرقل نشاطه، وتؤثر بالسلب في أدائه وفي موضوعيته في هذا الخصوص.

تشكل الحرية الأكاديمية أحد تجليات الممارسة الديمقراطية، وقد حظيت بأولوية أساسية ضمن شعارات ومطالب الجماهير خلال فترات التحوّل الديمقراطي التي شهدتها كل من دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وإفريقيا، منذ سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.

وعلى الرغم من الجهود التي قامت بها بعض الدول العربية في هذا الشأن، فإنها تظل غير كافية، وقد أتاحت تحولات الحراك التي شهدتها المنطقة؛ بروز نخب بأفكار جديدة لا تخلو من انتقادات للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما ظل مطلب تعزيز الحريات الأكاديمية حاضراً وبقوة ضمن الاحتجاجات التي شهدها العديد من الدول.

إن رفض الحرية الأكاديمية أو التضييق عليها هو تنكّر للحقائق، وإصرار على بقاء الأوضاع على حالها، وتكريس للهدر، وإحباط للكفاءات وقتل للمواهب، وتضييع لفرص التقدم والتنمية.

وفي المقابل، توفر المعرفة النقدية كأحد تجليات الحريات الأكاديمية، إطاراً للإبداع ولإطلاق الأسئلة الكفيلة بإرساء نقاشات مثمرة على عدة مستويات.

إن مساهمة البحث العلمي والفكر النقدي في تطور المجتمعات وتحقيق التنمية الإنسانية في المنطقة العربية، لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال توفير هامش من الحرية المحفزة على الإبداع والاجتهاد، وإلى ثقافة مجتمعية حاضنة؛ تؤمن بأهمية التغيير والتجديد والمعرفة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/24cv6968

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"