الرياضة بين الفرجة والتّرافع

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

توفّر المناسبات الرياضية عائدات مالية ضخمة للدول، كما أن هذه الأخيرة أصبحت ترى في الرياضة مقوّماً أساسياً ضمن عناصر القوة الناعمة التي كثيراً ما تستثمرها في إطار تعزيز سياساتها الخارجية، على مستوى التسويق لفرص الاستثمار وجلب السياح، والتعريف بحضارة وثقافة البلد، وخاصة مع تزايد الاهتمام الإعلامي الدولي والوطني بفعالياتها.

وقد شكّلت الملاعب الرياضية منذ القدم ملاذاً للفرجة، للهروب من الضغوط اليومية ومختلف المشاكل التي تواجه الأفراد، وكذا مناسبة لتطوير القدرات واستعراض المهارات، في إطار من التنافس. وعلاوة على كونها وسيلة للتفريغ والتسلية وإثبات الذات، فلا تخفى انعكاساتها على مستوى تربية الأفراد على قيم التسامح والحوار والروح الرياضية والإقرار بالأخطاء والسعي لتجاوزها.

تحوّلت الملاعب الرياضية خلال العقود الأخيرة إلى فضاءات تعجّ بالشعارات والمطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أبعادها الوطنية والدولية، ضمن استثمار ذكي للإشعاع المتزايد لعدد من الرياضات، كما هو الشأن بالنسبة إلى كرة القدم، وتوظيف المتابعة الجماهيرية الواسعة التي تحظى بها في أوساط فئات مختلفة من المجتمع في سياق المرافعة بشأن عدد من القضايا المجتمعية التي لا تحظى باهتمام كافٍ من قِبل عدد من القنوات الإعلامية.

فكثيراً ما مثلت الميادين الرياضية منصات للترافع بشأن عدد من القضايا الدولية في أبعادها البيئية والإنسانية والاجتماعية، والتعريف بمعاناة عدد من الشعوب، في ارتباط ذلك بالإشكالات التي تطرحها قضايا الهجرة واللجوء، والفقر والتمييز العنصري، بل وإرسال خطابات تنبذ العنف والحروب، وتدعم التواصل والحوار بين الشعوب.

أما على المستويات الداخلية، فقد أصبحت الكثير من المناسبات الرياضية تشكل فرصاً لإطلاق شعارات ومطالب متصلة بقضايا الحريات وحقوق الإنسان، وغلاء الأسعار وانتقاد أداء النخب الحاكمة.. وقد زاد من فعالية ذلك، انتظام الجماهير المشجّعة في إطار مجموعات «الألتراس»، التي طورت أساليب تشجيعها لفرقها المفضلة، مستثمرة في ذلك الزخم الإعلامي الذي يرافق المنافسات الرياضية، والعدد الكبير لمنخرطيها الذي يضم مئات الآلاف أحياناً، وذلك برفع لافتات، وترديد شعارات وأغانٍ، وعرض «تيفوهات» لا تخلو من حملات سياسية واجتماعية، غالباً ما تلقى تفاعلاً كبيراً داخل المجتمع.

إن هذا التحول الذي شهدته وظائف الملاعب الرياضية في عدد من الدول، بغض النظر عن إمكاناتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، سواء كانت متقدمة أو متخلفة، يطرح الكثير من الأسئلة حول العوامل والأسباب التي جعلت الكثير من الأشخاص من مستويات عمرية وطبقات اجتماعية مختلفة، يلجأون إلى الملاعب لتصريف مطالبهم وقضاياهم المختلفة من خلال المنافسات الرياضية.

إن أول ملاحظة تبرز للعيان في هذا السياق، هي أن الإقبال على الملاعب والمنتديات الرياضية، يقابله عزوف كبير على الشأن السياسي والمشاركة السياسية بشكل عام، ما يحيل إلى وجود اختلالات تطول القنوات الوسيطة من أحزاب سياسية ونقابات وهيئات سياسية، يبدو أنها لم تعد قادرة أو مؤهلة لمواكبة معاناة وتطلعات الجماهير التي وجدت متنفساً في الملاعب، مثلما وجدته أيضاً في شبكات التواصل الاجتماعي.

فيما بدأت الكثير من الدول تشهد تصاعداً للخطابات الشعبوية والنخب المتطرفة التي استغلت الفراغ الناجم عن غياب مشاريع اجتماعية وثقافية تقودها نخب وازنة على قدر من الكفاءة والمصداقية.

إن التحول الكبير الذي شهدته الملاعب الرياضية من حيث تحوّلها إلى منصات للاحتجاج، يحيل في جزء كبير منه إلى وجود ارتباك واضح على مستوى القنوات الوسيطة والنخب السياسية التقليدية التي لم تطور من أدائها وخطاباتها وأدوات اشتغالها.

إن استثمار الجماهير للملاعب الرياضية، كإطار للتعبير عن أحلامها وآمالها، والتنفيس عن آلامها، هو بمثابة رسالة واضحة إلى مختلف القنوات الوسيطة من أحزاب سياسية ونقابات ومؤسسات إعلامية، لتطوير أدائها وانفتاحها على قضايا المجتمع التي يفرضها المحيط الدولي، بالعودة إلى عمق المجتمع والالتزام بمهامها ووظائفها، ومسؤولياتها على مستوى التنوير والتأطير والتعبئة والتنشئة الاجتماعية.

كما أن الأمر يسائل الدول نفسها بتوفير هامش مريح للتحرك أمام هذه القنوات، ذلك أن الفراغ الذي تخلفه على مستوى عدم الاستئثار بمهامها، هو خطر حقيقي يتربص بالمجتمع والدولة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2smc2pfn

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"