عادي

القصيدة غير المكتملة.. لحظة إبداع مبتورة

23:31 مساء
قراءة 12 دقيقة
1

الشارقة: علاء الدين محمود

القصائد غير المكتملة، هي النصوص الشعرية التي تركها أصحابها من دون أن ينهوها، تلك التي بدأت في لحظة وحي ربما انقطع، لتظل حبيسة الفكرة والأدراج زمناً، أو ربما أن صاحبها تخلى عنها، لكن في كل الأحوال تسربت تلك القصائد إلى القراء، والحقيقة أن الكثير من الشعراء في العالم، خاصة أصحاب الشهرة والمكانة الأدبية الرفيعة، مروا بتلك التجربة، في عصور مختلفة، ليظل السؤال باقياً على الدوام: لماذا هناك نصوص غير مكتملة؟ ويتصدى في هذه المساحة للإجابة عن السؤال عدد من الشعراء الإماراتيين، متناولين تلك الظاهرة من خلال تجاربهم الشخصية.

«أحياناً تتوقف لحظة الدهشة عند الشاعر، فلا يستطيع أن يعود إلى الحالة الأولى التي كانت عندما شرع في الكتابة»، هكذا تحدث الشاعر أحمد المطروشي الذي يمنح تلك الدهشة التي تتملك الشاعر عند وقت نظم القصيد أهمية كبيرة، مؤكداً أن كل مبدع يختلف عن الآخر في طقوسه الكتابية وفي التعبير عن مشاعره، ولا يستطيع أحد أن ينفذ إلى أعماق نفس الشاعر ليكتشف ماذا حدث في لحظة التوقف تلك، فهناك الكثير من الأشياء التي شكلت عوامل حالت دون استمراريته في كتابة النص، وهو أمر يصعب إصلاحه، لأن الإضافات التي يمكن أن يضيفها الشاعر للنص غير المكتمل في وقت لاحق لا تكون ملائمة لأن الظرف قد تغير.

1
أحمد المطروشي

أشار المطروشي إلى أن ظاهرة التوقف عن الكتابة لأي سبب من الأسباب، وترك النص ناقصاً، هو ظاهرة عالمية عرفها الشعراء منذ الأزل، وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك حول العالم، فالشاعر الألماني هولدرلين، صاحب النصوص العميقة والغامضة، خلّف الكثير من القصائد غير المكتملة، وقد جمع الشاعر الفرنسي بيير جان جوف، بعض قصائد هولدرلين وترجمها إلى الفرنسية بالتعاون مع الفيلسوف بيير كلوزوفسكي، ولأن شعر هذا المبدع المميز، كان مختلفاً وجذاباً وفيه نزوع فلسفي وجمالي، فقد اهتم به العالم، وصدرت ترجمات عدة لأشعاره، على الرغم من أنه كان منسياً في حياته، وظل مجهولاً حتى أوائل القرن العشرين، ولولا هذه الترجمات ما تسنّى للقراء أن يعرفوا شيئاً عن هذا الشاعر، وقصائده المهملة ونصوصه غير المكتملة، والتي ربما كان تركها عن عمد، ولم ينشرها، وهناك أيضا الشاعر آرثر رامبو، وت. س. إليوت، وغيرهما من شعراء عالميين تركوا نصوصاً غير مكتملة.

وذكر المطروشي، أن العالم العربي عرف كذلك هذه الظاهرة، وفي الإمارات هناك أمثلة كثيرة، حيث إن الشاعر الراحل علي العندل، له العديد من النصوص المجهولة وغير المنشورة، وفيها ما هو غير مكتمل، ويلفت المطروشي إلى أنه، شخصياً، مر بتلك التجربة، فكثير من قصائده في فترة التسعينات هي نصوص ناقصة وقد تركها كما هي، لأن مسألة إكمالها أصبحت غير موضوعية لأن الزمن قد اختلف، وكذلك التجربة، والمشاعر، والفكرة، وهي العوامل الأساسية في إنتاج القصيدة.

ولفت المطروشي إلى أن القصائد غير المكتملة، هي تجربة جديرة بالتفكير والتدبر والتأمل، وهي تجد الآن اهتمام الباحثين والنقاد، وهنالك الكثير من الأمثلة للذين تم اكتشاف نصوصهم الناقصة تلك، وتمت إعادة نشرها، واستقبلت بدهشة كبيرة، ونجد أن الشاعر اليوناني المصري قسطنطين كفافيس، قد ترجمت له خمس مجموعات شعرية بعد رحيله بواسطة رفعت سلام لم تصدر أية مجموعة منها قبل وفاته، وآخرها بعنوان «قصائد غير مكتملة»، ومن ضمن هذه المجموعات ما تضمن عدة قصائد كان كفافيس نفسه استبعدها من النشر، بل أوصى بعدم نشرها.

ويشدد المطروشي، على أن القصيدة ليست نظرية أو مشروعاً فكرياً ينتظر أن يكتمل، بالتالي هي تختلف عن الفلسفة ومادة الفكر، لأن النظرية الفكرية دائماً ما يضيف إليها الفيلسوف ويعدل فيها على مدار السنوات، بحسب المعارف الجديدة، حيث إن المفكرين يكتبون حول المفاهيم والنظريات بعقولهم، بالتالي لا يتأثرون كثيراً بالظروف والمتغيرات، أما النص شعري فهو يخرج في لحظة دهشة وتأمّل، بالتالي لا يصلح النص الناقص لأن يكتمل.

1
حارب الظاهري

يحدث كثيراً

«ذلك الأمر يحدث كثيراً للشعراء»، بتلك الكلمات نفذ الشاعر حارب الظاهري إلى عمق الموضوع، مشيراً إلى أن القصيدة في بعض الأحيان تحتاج إلى وقت محدد وطقوس معينة وطبيعة مختلفة، فالشاعر يعمل وفق تلك العوامل على كتابة القصيدة، فإذا حدث أمر طارئ، أو تغير المزاج، أو أي شيء من هذا القبيل، فإنه في تلك الساعة يتوقف عن الكتابة، وتصبح قصيدته غير مكتملة، لأن ظروف اكتمالها قد انتفت، فهناك أمر عارض قطع حبل الأفكار وتسلسلها.

غير أن الظاهري، يختلف مع المطروشي، في أن الشاعر بإمكانه أن يكمل القصيدة في وقت لاحق إذا ما توفرت ذات الشروط والعوامل التي تهيأت له عندما شرع في كتابة قصيدته، فالمهم في هذه الحالة هو الفكرة، فإن لم تتسرب فإن إمكانية المواصلة تظل قائمة حتى إن طال الزمن، إذ إن الظروف والمزاج هي عوامل مساعدة لكتابة النص، بينما تحتل الفكرة، أحياناً، مكانة مركزية في بناء القصيدة، ولكن في بعض الأحيان الأخرى لا يستطيع الشاعر أن يفعل ذلك؛ أي أن يكمل القصيدة، حيث إن كل مبدع يختلف عن الآخر، كما أن القصيدة نفسها ربما تكون قد لمعت في ذهنه بناء على الحالة التي كان يعايشها في ذلك الوقت، غير أن قضية النص الناقص معقدة وعميقة.

ويتحدث الظاهري عن تجربته مع القصائد الغير مكتملة، مشيراً إلى أنه ترك بالفعل بعضاً من نصوصه غير مكتملة، لأسباب كثير تخرج عن الإرادة، ويؤكد أن مسألة الإلهام لا توقيت لها، فقد يدهم الشاعر أثناء تجواله، أو وهو يركب سيارته، أو في ساعات العمل، بالتالي هو يبدأ الكتابة لكنه لا يستطيع أن يكمل النص نتيجة لظروف ما، مشيراً إلى أنه حاول كثيراً أن يكمل قصائده الناقصة لكنه لم يوفق في ذلك الأمر رغم المحاولات.

ويشير الظاهري إلى أن هذه القصائد، رغم عدم اكتمالها، فإنها تبدو واضحة بالنسبة للقارئ، إذ إن المتلقي يفهم أسلوب الشاعر وأفكاره، وعندما يتعمق في النص غير المكتمل يستطيع أن يعرف ما يريد الشاعر قوله، خاصة أن أية قصيدة تعتمد على الجمال واللغة، رغم أهمية الفكرة، حيث إن المتلقي يستمتع على كل حال بالنص الشعري، وحتى لو تاهت الفكرة فإن القارئ يستطيع أن يلتقطها.

بيت واحد

وذكر الظاهري، أن بعض الأبيات الشعرية، أو ربما بيت واحد فقط، ينتشر بين الناس، ويجد صدى كبيراً وتردده الألسن، من دون أن يعرفوا من هو قائله، بل في بعض الأحيان يكون كاتبه مجهولاً، ولكن نسبة لأن الفكرة التي يحتويها البيت، أو الحكمة، أو المعنى يكون قوياً جداً، ينسي الناس من الذي قاله لتخلد الفكرة، بالتالي فإن هناك الكثير من الشعراء كتبوا قصائد طويلة، لكن بعض تلك المطولات لم يشتهر فيها غير بيت، أو بيتين، نسبة لقوتهما لما يحملان من معاني تسربت إلى عقول وقلوب الناس، فلم يهتموا ببقية القصيدة، وذلك الأمر يشير إلى أن القارئ أحياناً هو أيضاً يقرر أنه قد اكتفى من تلك القصيدة ببيت معين.

1
الهنوف محمد

خيانة

الشاعرة الهنوف محمد أوضحت أن هناك العديد من العوامل تؤدي إلى انقطاع مفاجئ للشاعر عن الكتابة، فهو عندما يدخل في الحالة الشعرية، فإن الإلهام يخفت في بعض الأحيان، فيشعر بأنه قد انفصل عن تلك الحالة، فتخونه المفردات الشعرية، ويظل في محاولة مستمرة في البحث عن ذلك الشعاع الذي انطفأ، وذلك الخيط الذي انقطع بينه وبين القصيدة بلا طائل، فيضطر إلى تركها هكذا، ربما لأن القصيدة نفسها اختارت أن تأتي بتلك الصورة، وفرضت اختيارها هذا على الشاعر، غير أن البحث في الظروف والأسباب في ترك الشاعر لقصائده مهملة، أو من دون أن تكتمل هي مسألة في غاية الصعوبة لأن الظروف نفسها تختلف، كما أن دواخل أي شاعر دائماً ما تكون مختلفة عن الآخر، بالتالي فإن مسألة الانقطاع، في بعض الأحيان، تبدو جزءا من عملية كتابة الشعر نفسها، وهي بهذه الكيفية شيء طبيعي.

ولفتت الهنوف إلى أن هناك حالة عشق بين الشاعر ونصّه، لأن القصيدة هي حياته، بالتالي فإن انقطاع الإلهام أو الخيط الشعري، رغم أنه يحدث، إلا أنه أمر فادح، وهو نقطة ألم ومعاناة بالنسبة للشاعر الحقيقي؛ لأنها بالنسبة إليه أشبه بالطلاق الروحي؛ فإحساسه يكون في تلك الحالة معلقاً بين إرادة إكمال القصيدة، وتمنعّها عليه ورفضها للاكتمال.

وذكرت الهنوف أن من بين الأسباب الشائعة في أن تأتي القصيدة ناقصة هي الإطالة، فهي دائماً ما تؤدي إلى انقطاع الأفكار وتسلسلها، بالتالي يتركها الشاعر من دون أن تكتمل، وهو قرار صعب ولا يأتي في كثير من الأحيان عن قصد، لكن لا مفر منه.

وأشارت الهنوف إلى العديد من القصائد والنصوص العربية والعالمية غير مكتملة، لكنها رغم ذلك وجدت صدى كبيراً، وتعامل معها القراء كما لو كانت غير ناقصة، وذلك الأمر لا يحدث إلا مع الشعراء الكبار بطبيعة الحال، الذين يمتلكون البراعة الإبداعية وجمهوراً من المتلقين، وهنالك الكثير من الباحثين والنقاد تخصصوا بالفعل في مثل هذا النوع من القصائد.

وأكدت الهنوف، أنها قد مرت بتجربة أن تترك القصيدة من دون أن تكتمل، حيث إن الحرف في بعض الأحيان لا يطاوع، كما أن الإلهام يحتجب، وتضطر في هذه الحالة إلى هجر الشعر فترة من الزمن تلجأ فيها إلى أنواع إبداعية أخرى مثل الترجمة الأدبية، وكتابة الأغاني للمسرح.

وتلاحظ الهنوف أن الكثير من الشعراء أطلقوا على واحد من دواوينهم اسم «قصائد لم تكتمل»، وهنالك من له عنوان نص شعري له ب«قصيدة غير مكتملة»، أو «قصيدة ناقصة»، أو كل ما يحمل دلالة أن هذا النص غير مكتمل، ومثل هذه العناوين تشير إلى أشياء عدة، أهمها تلك الرغبة المجنونة من قبل الشاعر في أن تمتد قصيدته وتسافر نحو عوالم ولحظات وتفاصيل يرغب في التعبير عنها، لذلك دائماً ما يرى في نصه النقصان، لأنه يريد أن يقول الكثير لكن لا يسعفه الزمن ولا لحظة الإلهام.

1

تشكل

الشاعرة بشرى عبد الله، ترى أن كتابة الشعر نتاج المشاعر المتباينة والكثير من التجارب والمواقف التي مرت بالشاعر، بالتالي فإن النقص في القصيدة هو جزء من تلك العملية الإبداعية الجمالية، وهناك الكثير من الشعراء لديهم قصائد غير مكتملة تلتهمها الأدراج، مثلما يفعل الفنان التشكيلي الذي يحتفظ باللوحات غير المكتملة على رف قصِي.

ولفتت بشرى إلى أن السؤال الملحّ، والذي يتردد في الأذهان هو: لماذا يترك الشعراء قصائدهم من دون اكتمال؟ مشيرة إلى أن الفعل «يترك»، الذي يشحن بحمولات دلالية سلبية غير مناسب لوصف الفعل الحقيقي، فما يحدث حقيقة أن الشاعر لا يترك القصيدة بمحض إرادته، وإنما يبدأ بكتابة القصيدة ويتوقف عن إكمالها لسبب غير معروف بالنسبة له، ولا لمن حوله، فالشعر كائن مزاجي يتوقف عن الانهمار حين يريد، ويسيل سيل العرم متى يشاء، فلا شيء حقيقة يمكن أن يقود إلى السبب الحقيقي حول ترك الشعراء لقصائدهم ناقصة.

وأوضحت بشرى أن الشاعر لا يقرر بنفسه أن يترك النص غير مكتمل، أو أن يعمل على إهماله، فالقصيدة تختار لنفسها الشكل الذي تريد فعلاً أن تتشكل فيه، والمدى الذي تصل إليه، وأحياناً قد يكون مزاج الشاعر قادراً على منحه قصيدة كاملة، وفي أحيان أخرى يمنحه نصف نص، أو أطراف قصيدة، وهي الحالات التي يكون فيها النص غير مكتمل، بالتالي فإن هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى ذلك الأمر.

وأشارت بشرى إلى حوار وحديث طويل جمعها بالفنان التشكيلي عبد القادر الريس، وهما على متن الطائرة في الطريق إلى إحدى دورات معرض الكتاب في العاصمة الإسبانية مدريد، وكان ذلك الحديث يدور حول اللوحات التشكيلية غير المكتملة التي تشبهها فعلاً القصائد الناقصة، وهي بالنسبة للفنان أو الشاعر من الأمور التي لا سلطة له عليها، فالإبداع يشبه بعضه بعضاً، وإن تعددت وسائل التعبير.

1
سالم بوجمهور

ظروف

يلفت الشاعر سالم بو جمهور، إلى أن الشاعر لا يعرف شيئا عن طول القصيدة، اكتملت أو لم تكتمل، فهو لا يعلم بدايتها ولا نهايتها، فتلك حالة إبداعية لا تعترف بمثل هذا الترتيب.

وذكر بو جمهور أن القصيدة لا تأتي بقرار من الشاعر، وعندما يكتب الشاعر عمداً تكون القصيدة في هذه الحالة تأليفاً لا إبداعاً، وهناك فرق بين الاثنين، فالقصيدة التي تكتب وفقاً للحالة الثانية «الإبداع»، هي التي تمتلك مصيرها، بل ومصير شاعرها كذلك، فالقصيدة ليست شيئاً مادياً، بل حالة روحية تعتمد على الإلهام، وذلك الأمر يتحكم في طولها وقصرها.

وأوضح بو جمهور أن القصيدة قد تأخذ دقيقة واحدة في كتابتها، أو عدة أيام لكي تصل إلى نهايتها، فالظروف هي التي تتحكم في هذا الأمر، وبين بدايتها ونهايتها تظل في اتقادها، أو هطولها، أو تحليقها في خيال الشاعر، لكنها لا تكون تحت قرار الترك، أو الانقطاع، فالقصيدة هي بمثابة قدر بالنسبة للشاعر لا يتحكم في مساره ورغبته وإرادته، فعدم اكتمال النص الشعري لا يخضع لرغبة الشاعر أو قراره، بل لأن ظروفاً قد تدخلت وحالت دون أن تكتمل القصيدة.

1
عبد الله الهدية

تداخل

الشاعر عبد الله الهدية، قدم العديد من الأسباب التي تتسبب في عدم إكمال القصيدة، لافتاً إلى أن الشاعر في بعض الأحيان قد يكون مشغولاً بكتابة نص مصطنع يجتهد في عملية «تأليفه»، وتداهمه في ذات اللحظة قصيدة أخرى «طبيعية»، تبحث عنه، فيترك الأولى ويكمل التي فرضت نفسها عليه، وفي بعض الأحيان فإن الشاعر يتوقف عن الكتابة لأن جفاء قد حدث بينه وبين القصيدة، فتصبح عصية عليه.

وذكر الهدية أن الشاعر في بعض الأحيان يترك القصيدة من دون أن تكتمل، لأنه لم يقتنع بها، وبالتالي لم تعنِ له شيئا، وهذا الأمر هو الذي يتسبب في معظم الأحوال في مسألة الانقطاع بين الشاعر ونصه.

ويلفت الهدية إلى أن بعض القصائد هي بمثابة نص مفتوح، يكتمل مع الزمن، حيث إن الفكرة قد بدأت ولمعت، في هذه الحالة، في ذهن الشاعر، لكنها لم تتبلور، فيتركها حتى تكتمل، وفي أحيان أخرى يجد الشاعر أن هذا الزمن ليس مناسباً للقصيدة، خاصة إذا كانت تحمل توقعات أو نبوءات، فيتركها إلى زمن آخر، مشيراً إلى أن بعض القصائد كتبت بالفعل في أزمنة متفرقة، وذلك يظهر جلياً في تغيًر وتطور أسلوبية الشاعر داخل القصيدة الواحدة.

نبش الأرشيف الخاص

دور النشر دائماً ما تتحمس بصورة كبيرة للنبش في أرشيف الشعراء والكتّاب الكبار الراحلين، للبحث عن عمل لم ينشر أو لم يكتمل، أو يقبع في الدرج، يتسابقون حول ما يخلفه الشاعر المعين من شذرات وقصائد غير مكتملة، أو قصاصات لم تجد طريقها إلى الطباعة، وذلك الأمر أدى إلى اكتشاف الكثير من النصوص المجهولة وغير المكتملة، وذلك ما حدث مع عدد من الشعراء، حيث نشرت أبيات وقصائد للشاعر الفرنسي بول إيلوار، الكثير منها غير مكتمل، بل وصدر مؤخراً ديوان شعر في الحب للشاعر الفرنسي الآخر بول فاليري، بعد سنوات من رحيله، وقد كتب قصائده لامرأة سرية، أو مجهولة، واحتفظ بالنصوص في درجه بعيداً عن الأنظار، تضمنت مسودات وقصائد غير مكتملة، وخاضت دار النشر التي طبعت الديوان، مباحثات طويلة استمرت لعامين مع أسرة الشاعر من أجل الإفراج عن تلك الكنوز، إلى أن سمحت ابنته بنشرها.

أسباب متباينة

كثير من الشعراء العالميين كانوا كتبوا نصوصاً لم يكملوها لأسباب متباينة ومختلفة، وتأتي في هذا الصدد العديد من الأسماء الكبيرة، والنجوم التي سطعت ولمعت في سماء الشعر حول العالم.

الشاعر بابلو نيرودا «1904 1973»، له الكثير من القصائد المفقودة التي تم العثور عليها بعد مؤخراً، وتحديداً في عام 2014، وتتضمن قصائد ونصوصاً غير مكتملة، لدرجة أن العديد من النقاد طرحوا سؤالاً حول إن كانت تلك القصائد تستحق النشر، حيث إن بعضها كان بمثابة مسودة لقصيدة، شذرات ركيكة ومتقطعة وغير مكتملة، كأنه كان ينوي أن يكملها في ما بعد بينما لم تسعفه الفكرة، أو ربما الزمن، خاصة أن الشاعر التزم بقضايا أيديولوجية وفكرية مثل نصرته للشعوب المضطهدة.

والشاعر الروسي ألكسندر بوشكين «1799 – 1837»، خلّف هو الآخر بعض الآثار والنصوص غير المكتملة، مثل قصيدة «الراهب»، كتبها خلال المرحلة الثانوية، ولم يكملها في وقد وصفت من قبل النقاد بأنها ضعيفة وطفولية، إضافة إلى نص آخر بعنوان «بوفا»، ومعظم تلك النصوص كتبها بوشكين في عمر الشباب الأول، عندما كان طالباً، والكثير من تلك القصائد لم تنشر في حياته، لكن في بعض الأحيان، لا تتحكم في كتابة القصيدة مسألة الإلهام والوحي فقط، فبعض الشعراء الكبار يقوم مشروعهم الشعري على أفكار قد تكون أيديولوجية، أو نضالية، أو رؤية وموقف من العالم، لذلك تكتب تلك النصوص على مدار سنوات، ومن الطبيعي أن تفقد منها أجزاء، وذلك يشير إلى أن القصيدة لا تأتي دفعة واحدة في لحظة تسمى الإلهام، فبعض قصائد بوشكين التي كتبها في سنوات النضوج لم تكن مكتملة بسبب الظروف المحيطة بالشاعر، حيث ألّف معظمها في سنوات صعود الأفكار الثورية.

ويشير النقاد إلى أن هنالك شعراء آخرين لم يكملوا العديد من نصوصهم التي هي في الأصل تتصف بالغموض، أمثال الألماني فريدريش هولدرلين، والفرنسي آرثر رامبو وغيرهما، ويرون أن الأسوأ أن تكون الفكرة غير مكتملة وليس النص نفسه، لأن نقص أبيات من القصيدة لا يضيع موضوعها ومعانيها، بينما الرؤية الناقصة تهدم بنية النص تماما، لذلك دائماً ما ينسب بعض النقاد قصيدة مجهولة إلى شاعر محدد ذلك لمعرفتهم بأساليبه، وأفكاره.

وبعض القصائد لم تكتمل برغبة الشاعر نفسه، والذي أراد لها أن تأتي هكذا لأغراض ربما تكون جمالية، أو فكرية، أو لكونها تتضمن رؤية يريد لها الشاعر أن تكتمل بعده، وربما ذلك ما فعله الشاعر محمود درويش «1941 2008»، مع آخر نص له قبل وفاته، والذي جاء بعنوان «سيناريو جاهز»، حيث وضع عبره تحدياً للشعراء العرب بأن يكملوا هذا النص، وبالفعل فإن العديد من الشعراء العرب عملوا على إكمال النص.

الصورة
1
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p963hej

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"