المنظمات الغربية في مناطق النزاعات

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

يتم في أغلب الأحيان تقديم المنظمات الدولية غير الحكومية على أنها تجمّع لشخصيات معنوية تخضع للقانون الخاص، وتتبنى أهدافاً غير ربحية، ويجري إنشاؤها من طرف فاعلين خواص، ويقدّم هؤلاء الفاعلون أنفسهم على أنهم مستقلون عن الدول التي ينتمون إليها، كما تقدم هذه المؤسسات الدولية نفسها على أنها جزء من الحراك الذي يمارسه المجتمع المدني على مستوى الدول الوطنية وعلى المسرح الدولي، لتقديم خدمات إنسانية، اعتماداً على تبرعات الأفراد من كل دول العالم. ويشير الباحث برتراند بادي، إلى أن المنظمات الدولية غير الحكومية بدأت تأخذ أهمية معتبرة منذ الحرب العالمية الثانية، في تعارض مع المنظمات التي تمارس نشاطها بتنسيق مباشر مع حكومات الدول، وتعمل المنظمات الدولية غير الحكومية في المقابل مع المنظمات الوطنية غير الحكومية، ويكون لبعضها من ثم نشاط متصل بهيئات الأمم المتحدة.

ما يلفت الانتباه في هذه المنظمات الدولية غير الحكومية، هو كونها منظمات غربية في المقام الأول، وتخدم بشكل مباشر أجندات القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، ويتساءل في هذا السياق فانسان براديي، عن الأدوار والمهام المستقبلية للمنظمات الدولية غير الحكومية التابعة للغرب، في عالم جديد بدأ يأخذ ملامح غير غربية في لحظة ميلاد نظام دولي متعدد الأقطاب. ويستمد هذا التساؤل مصداقيته، انطلاقاً من الاعتراض المتصاعد، في عدة دول من العالم، من دور هذه المنظمات في مناطق النزاعات، نتيجة لممارساتها التي تفتقد إلى الشفافية والحيادية، وخاصة في المجتمعات التي تشهد انهياراً لمؤسسات الدولة. ومن الواضح أن احتكار الغرب للغالبية الكبرى من هذه المنظمات الدولية، إضافة إلى الغموض الذي يلف أهدافها، وحتى التوصيف المقدم لتصوراتها وفلسفتها وطابعها المتجاوز لحدود الدول، يجعلها فريسة لحملة غير مسبوقة من الانتقادات خارج الدول الغربية.

ويذهب المتابعون للشأن الدولي إلى أن الميزانيات الضخمة التي تمتلكها هذه المنظمات وأسلوب تدخلها في شؤون الدول، يُسهم في تفنيد الكثير من المزاعم المتعلقة بطبيعة نشاطها، من قبيل استقلاليتها عن أجندات الدول الداعمة لها، والتزامها بالمهام الإنسانية بشكل احترافي؛ لذلك فقد جرى في المؤتمر الذي عُقد في باريس في ديسمبر/كانون الأول من السنة الماضية، التشكيك في قدرة المنظمات الدولية غير الحكومية التابعة للغرب، على أداء مهامها الإنسانية بشكل متوازن في سياق الأزمة الأوكرانية التي تشهد استقطاباً حاداً وغير مسبوق بين الشرق والغرب. وتشير الأرقام المصرّح بها، إلى أنه ورغم تعدّد النزاعات والمآسي الإنسانية في العالم، فإن القسم الأكبر من الأموال الموجهة إلى دعم المنظمات غير الحكومية، كان من نصيب الأوكرانيين الموالين لحكومة كييف.

لقد تحوّلت المنظمات الدولية غير الحكومية الغربية، خلال العقود الماضية، إلى أداة ضغط سياسي كبير على العديد من الدول التي لا تستجيب ممارساتها وخياراتها السياسية للسجلات والبرامج التي تضعها القوى الكبرى في الغرب، وأصبحت بعض هذه المنظمات تمارس نشاطاً دبلوماسياً موازياً لدبلوماسية الدول ذات السيادة، وخاصة في الملفات المتعلقة بحقوق الإنسان والعمل السياسي والحزبي، وكل المسائل المتصلة بتداول السلطة في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتُصدر هذه المنظمات بشكل دوري، صكوك براءة للأنظمة الموالية وبيانات إدانة لتلك المعارضة للتوجهات الحضارية والسياسية للغرب.

ويمكن القول إنه ونتيجة للتحولات الجيوسياسية الهائلة التي يشهدها العالم، فإن العديد من الدول، لاسيما في إفريقيا وآسيا، تفضّل خيار المواجهة مع هذه المنظمات، وتقوم بتضييق وحصر نشاطها حيناً، وبمنعه بشكل تام أحياناً أخرى؛ كما حدث في مالي، على سبيل المثال، عندما قامت سلطات باماكو بوقف نشاطات المنظمات الدولية، وعلى رأسها تلك المرتبطة بفرنسا في سياق أجواء التوتر القائم بين العديد من الدول الإفريقية وباريس. وهناك مطالبات جادة في العديد من العواصم العالمية، بما في ذلك الغربية منها، بضرورة إعادة النظر في أسلوب عمل هذه المنظمات وتخليصها من صبغتها الاستعمارية، لتمكينها مستقبلاً من ممارسة عملها الإنساني، بعيداً عن الوصاية والابتزاز ومحاولات الهيمنة السياسية على الدول الفقيرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4tukky35

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"