عادي

عندما ينضب وقود الإبداع

23:06 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: أشرف إبراهيم
ثمة عزلة قد تستدرج الكتّاب والمبدعين إلى مخابئ بعيدة عمّا ألفوا من أنماط الكاتبة، تضع حواجز بينهم وبين الحبر والورق، فتشعرهم أحياناً باللاجدوى، أو أن ماء الإبداع آسن لا بهجة فيه، أو تشعرهم بأن القطيعة مع الكتابة قد ترسم لهم أحلاماً جديدة، وتبعث فيهم روحاً مغايرة، وأن شرط العودة مرهون بفكرة غير تقليدية، لكن في كل الأحوال هل عند الاستسلام للعزلة تتعطل حواس الأصابع، وتصبح الروح خاوية من الفكر أو الخيال، أم أنها قد تكون فرصة إلى فتح صندوق المفاجآت من جديد ومن ثم العودة بأقصى درجات الإبداع؟

الصورة

أي قطار هذا الذي يحمل الكتّاب ويسرع بهم يعيدا عن تجاربهم التي رسخت لوجودهم في المشهد الثقافي، وأي حياة تلك التي تجعلهم يستسلمون لعزلة مقيتة في دواخلهم، تمنعهم من الطيران في ملكوت الحروف والأفكار، فما هذه العزلة التي لا توسط فيها؟ والتي قد تمنح بعضهم السكينة، وقد تشكل لآخرين أوقاتاً يحترق فيها العمر من دون وجود إجابة أو تفسير لهذه الفترات المستحيلة التي تمر بهم وهم يضيقون ذرعاً ببما أحبوه واقتفوا أثره، وتتبعوا مواسمه، فمتى يدخل الكاتب إلى خيمة عزلته؟ إذ من المؤكد أن لكل مبدع أسبابه التي تجعله غير عابئ بنسائم الكتابة، وغير قابل للاقتراب مما تحمله الأدراج من أوراق وكلمات.

في هذا الاستطلاع، يروي بعض الكتّاب والأدباء وأصحاب الفنون الإبداعية المختلفة عن اللحظة الفارقة التي تجهزهم لعزلة غير متوقعة، قد يصبحون فيها محصنين ضد العالم كما يقول بول أوستر، أو قد تتوقف معها المسيرة، وتنطفئ فيها أضواء ونوافذ الخيال، وتحررهم من أرق السؤال عن غد مجهول يبشر أو لا يبشر بعودتهم لإبداعاتهم المعهودة.

خلوة وتأمل

العزلة من منظور القاص إبراهيم مبارك قد تنتج عنها أشياء عظيمة غير متخيلة في واقع الأدباء الذين قد يسقطون في أفخاخها عنوة، فهي إن كانت تشكل خلوة وتأملاً، تصبح كفيلة بأن تمجد الكاتب، وتجعله في صورة أفضل مما كان عليه، وهي في كل الأحوال، تحدث بشكل مفاجئ لكل مبدع، فهي من وجهة نظره مفيدة، وتستحق أن تكون ملاذاً بين الحين والآخر، بخاصة أن ابتعاد الكاتب عن صخب الحياة، يضع مسافة تفصل بين ما هو غير مفيد وعقل مفكر مثل الأديب الذي يحتاج إلى الانعزال حتى يكتب فكرة مغايرة، ورغم أن مبارك يمارس على نفسه فن العزلة في فترات متقطعة من الزمن فإنه لا يحب أن تكون قطيعة وفراقاً، وهجراً متعمداً من الكاتب وتنكراً لتاريخه وإبداعه، خصوصاً أنه عرف في الحياة الثقافية، شعراء وأدباء عاشوا عزلة طويلة، امتدت لأكثر من 10 سنوات، لكن الجميل في الأمر أنهم عادوا في النهاية بإبداع يبعث على التأمل، فهو مع العزلة؛ إذ كانت ستعيد الكاتب على غرار ما كان عليه؛ ليستبطن أحواله في الإبداع، وينظر من زاوية أخرى إلى المعرفة.

1
موزة عوض

رائحة الأوراق

تحتاج الروائية موزة عوض أحياناً إلى لحظات تبتعد فيها عن الكلمات ورائحة الأوراق، فتبحث في ذاتها عن حكمة جديدة، أو تفتش في عقلها عن رؤية حتى تتأمل واقعها الإبداعي من جديد، وهي تمتدح العزلة أحياناً، لأنها قد تغرقها في الشجون وتجعلها تجلس بين عواصف ذاتية تقارب النصف عام، وهي غير قابلة لالتقاط كتاب من على أحد رفوف المكتبة، وحين تكون على هذه الحالة تتولد لديها رغبة في أن تكون العزلة الأدبية شاملة فتبتعد عن المشاركات الثقافية لكيلا تكون هناك حياة مشتركة في هذا الإطار؛ فهي لا تحتمل أن تكون بعيدة عن السرد الذي تألفه، وأن تكون في الوقت نفسه قريبة من دائرة الحوارات الأدبية في الأندية الإبداعية ذات النشاطات الفكرية في صفحة الحياة المفتوحة من أجل استقبال الكتاب.

وهي ترى أن شبح العزلة عندما يخيم على بعض الكتّاب؛ فإنه يَحول بينهم وبين ضوء الكتابة ومجازاتها، فيحبسهم في خانة بعيدة عن مسؤوليات الكتابة وأعبائها التحريرية، وأن بعضهم قد يعود إلى الحياة مرة أخرى وهو أكثر زخماً وحرية في اختيار مسار آخر لكتابة أخرى لا تقاس بما كتب من قبل.

غربة أخرى

وبالنسبة للتشكيلي د. محمد يوسف الذي له إسهامات فكرية وضعها في كتب تخص هذا الفن، فإنه اعتزل فنونه التي سلكت به طرق الإبداع نحو 9 سنوات، لزم فيها غربة أخرى اضطرته إلى السفر وهو غاض الطرف عن خانته التي اشتهر بها في الفن، فراح يفتش عن موطن جديد يعيده إلى ما ألف بطريقة مغايرة، يستقصي من خلاله الحلم بمباهج جديدة؛ حيث إنه تعرض لحادثة انتقاد من شخص ما بعدما بذل كل ما في وسعه في تجسيد عمل فني قوبل من هذا الشخص بالاستهجان، فقرر عزلته ومهد خلالها لذاكرة جديدة، فقدم تجاربه بعد سنوات عجاف فغدت أعماله الجديدة لها صوت وصدى عند الجميع، حتى في كتاباته التي شكلها على ضوء فنه الذي منحه فرصة، لكي يذهب بعيداً عمّا ألفه الناس، وهو هنا يستخلص من العزلة قوامها المفروض على المبدع، وبعدها الاختياري أيضاً، ويخلص إلى أنها تمنح من يلوذ بها فرصة لكي يخلو بنفسه، ويسحب ذاته من محيط سلبي إلى أفق رحب تمتد فيه الظلال، فتستعيد الروح فرديتها من جديد.

ضوء مصباح

ويفلسف العزلة وبواعثها في معترك حياة الأدباء الكاتب جمال الشحي؛ فيضعها في دائرة توقف وقود الإبداع بشكل مفاجئ عند كاتب ما، نظراً لأنه عطل ثقافة الاطلاع التي هي المصباح الذي يُهتدى بضوئه الغامر لرفيف الأفكار، ويسمح بتداول الكتابة على نطاق أوسع، فضلاً عن أن هناك من يختار العزلة بعد أن أصدر عملاً أو اثنين ثم وجد أنه لا جديد لديه، وأن ما قدمه لا يسمن ولا يغني من جوع، فآثر أن يهجر هذا العالم الصعب الذي لا وجود فيه لغير القادر على الإدهاش، وعن نفسه، فإن الشحي يحب عزلة من نوع آخر؛ تتمثل في أن يخلو بنفسه بعيداً عن كل الأضواء، حتى يعثر على فكرة جديدة، تمنحه أملاً في أن يقدم بهجة للآخرين، لكنه يستهجن هؤلاء الكتّاب المزاجيين الذين لا يأخذون الأدب على محمل الجد، فيجدهم أكثر ميلاً للعزلة عن غيرهم، فتكون عزلتهم من دون أسباب معروفة، ويرى أن العزلة قد تكون باعثاً حقيقياً لبعض الكتّاب في اقتفاء أثر جمالي جديد بشرط ألا تطول هذه العزلة لتتشكل الأبعاد المعرفية في مكامنها الطبيعية من دون الإسهاب في فكرة العزلة المطولة.

ذاكرة الكلمات

يعتقد الكاتب عبدالله الكعبي أن المبدع بشكل حقيقي هو صانع العزلة حين يقرر التحرر من الكتابة، ومن تفاصيل ترهقه في استحضار الفكرة ونسجها على نحو ما، وأنه حين تتولد مشاعر الضيق لديه من عمله الثابت في محيطه فإنه يحن إلى حرية من نوع آخر، فينشغل بأشياء معينة على نقيض ما كان يفعل في حياته الأدبية المسكونة بالحروف والأوهام، هذا النوع من الأدباء الذين تأخذهم مشاهد أخرى في الحياة، يعودون بإبداع قد يجعلهم في دائرة أكبر مما كانوا يتخيلون، لأنهم بشجاعة قرروا أن يجددوا ماء الإدهاش بالعزلة، لكن الحسرة الحقيقية تتمثل في الذين يعتزلون بلا رجعة فيكون غيابهم قطيعة تفصلهم عن مواهبهم التي جرتهم من البداية إلى الكتابة، عاش الكعبي فترات عزلة لنحو عام كامل، لكنه يعود بعدها بأعمال تستحق أن يقطع من أجلها حبل صمته، فهو يمدح العزلة ويذم أحوالها في آن، ويحس بأنها قد تكون مثل قاطع رحمه مع عالم المعرفة،

فهي تحبس المعتزل في عناد عارم وعصيان على مزاولة الفن الأسمى في الوجود، كونها تجبر من يختارها طواعية على تغيير كل طقوس الحياة، ومن يقدر أن يستفيد منها ويتعرف في فتراتها إلى ذاته يمتلك أن يغرد من جديد، فتجوز له الشفاعة عند محبيه من القرّاء والمثقفين وأقرانه في ساحة الإبداع. استراحة محارب

5
إسماعيل الدولي

أما الشاعر إسماعيل البلوشي الدولي فيعد عزلة الشاعر كافية لأن يطارد القصيدة من جديد، فهي قد تجره إلى فرج قريب، إذا كانت استراحة محارب ليعود بعدها بكلمات شعرية لا تشبه غيرها، أو رغبة في أن يكون شيئاً آخر في الكتابة، وأن يعثر على شيء ضائع في دفاتر الأيام؛ لأن الشاعر حين ينعزل عن محيطه الثقافي فهو ينسجم مع طبيعة أخرى تعيد اكتشاف ذاته. وهو يتحدث عن عزلة الشاعر تحديداً لأنه يرى أن الشعراء وحدهم هم الذين لا ينحدرون إلى العزلة التامة حين يركنون لها؛ فغريزة الشعر لا تجف عندهم كونها تتكاثر مع مرور الزمن، وقد يحدث أن يتورط الشاعر في عزلة تجعله في حالة مهملة لا تؤهله لأن يأتي بجديد، وهو هنا يأنس لعزلة تجرده من خواصه الإبداعية، لكن هذه العزلة مهما طالت مع الشاعر فإنها لا يمكن أن تجعله يهجر بالكلية مكتبته وأوراقه وأقلامه وظلال أشعاره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5467c3ua

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"