التعددية القطبية بين الحقيقة والوهم

00:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

كثر الحديث عن توجه العالم نحو التعددية القطبية، وعن مزايا هذه التعددية بالنسبة لشعوب ما أصبح يعرف بالجنوب العالمي الذي يضم مجموعة كبيرة من الدول، ذات الاقتصاديات الناشئة والدول التي تسير في طريق النمو، والتي يجمعها عدد من القواسم المشتركة من بينها: كونها دولاً لا تنتمي إلى الغرب، وترفض التدخل في شؤونها الداخلية، وتطمح إلى تطوير نفسها، وتصبو إلى تحقيق العدل والإنصاف، كما تعمل على تجاوز حالة الظلم والإجحاف التي تعرضت لها شعوب الجنوب، بسبب الهيمنة الغربية على العالم طوال عقود من الزمن.

ويكمُن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه بإلحاح من طرف الرأي العام في الشمال والجنوب على حد سواء، فيما إذا كانت التعددية القطبية تعني بالضرورة معاداة الغرب؟ والأجوبة المقدمة عن هذا السؤال تنفي، في مجملها، وجود إرادة حقيقية لدى دول الجنوب لمعاداة الغرب، وهي تتمسك في المقابل بحقها في المحافظة على استقلالية قرارها الوطني.

وقد مثلت «قمة البريكس» التي انعقدت في شهر أغسطس /آب الجاري في جنوب إفريقيا، أبرز مناسبة للحديث عن بناء عالم متعدد الأقطاب، يمكنه أن يفتح آفاقاً واسعة للجنوب العالمي من أجل رسم معالم نظام دولي جديد، وبخاصة عندما فتحت مجموعة البريكس أبوابها أمام أعضاء جدد يملكون قدرات اقتصادية معتبرة. وإذا كانت بعض دول المجموعة لا تخفي رغبتها في التصدي للهيمنة الأمريكية، وتريد أن تجعل من التكتل تحالفاً قائماً في مواجهة الغرب، كما هو الشأن بالنسبة لروسيا والصين، فإن أعضاء آخرين من المؤسسين ومن المنتسبين الجدد، يفضلون عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب مثل البرازيل التي قال رئيسها إن التعامل بعملات أخرى غير الدولار لا يعني رفض التعامل بالدولار الأمريكي، ومثل الهند أيضاً التي تدافع عمّا يسميه وزير خارجيتها بمبدأ الانحياز المتعدد، لاسيما أن نيودلهي أبرمت صفقات اقتصادية مهمة ذات أبعاد استراتيجية مع دولتين غربيتين هما: الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

وهناك تحاليل أخرى تذهب إلى أنه وباستثناء روسيا التي دخلت في صراع وجودي مع الغرب بسبب الحرب في أوكرانيا، فإن باقي الدول الصاعدة بما فيها الصين لا تريد استبدال النظام العالمي الحالي، ولكنها تعمل بكل ما لديها من إمكانات من أجل إصلاحه، بل إن الصين لا تتردد في الحديث مع الدول الغربية، لتحاول إقناعها بأن المشكلة ليست في النظام الدولي، ولكنها تكمن في قيادة واشنطن لهذا النظام من أجل خدمة مصالحها، حتى وإن تم ذلك على حساب مصالح حلفائها في المعسكر الغربي مثل فرنسا، التي تتهم واشنطن بالعمل على حرمانها من مناطق نفوذها في إفريقيا.

وعليه فإن «بنك البريكس» يريد فقط أن يكون، كما يقول جون كلود آلارد، مرآة للمؤسسات المالية الدولية التي يسيطر عليها الغرب مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والتي تفرض شروطاً قاسية على الدول التي تريد الحصول على تمويل من هذه المؤسسات، وتتضمن هذه الشروط في أحايين كثيرة برامج سياسية، تشكل اعتداءً على سيادة الدول، بينما لا يفرض «بنك البريكس» أية شروط سياسية على الدول التي ترغب في الاستفادة من خدماته.

ومن الواضح أن تحالف روسيا مع الصين يشكل إحدى أبرز ركائز التعددية القطبية التي يجري الترويج لها، من منطلق أن كلا البلدين يملك إرادة صلبة من أجل إحداث تغيير حاسم على المستوى الجيوسياسي الذي ظل يتحكم في العالم طوال عقود من الزمن، لكن هذه الإرادة التي تعبِّر عن نفسها من داخل البريكس تصطدم برغبة دولة قوية من الجنوب وهي الهند، تريد المحافظة على علاقة استراتيجية مع الغرب، لاحتواء النفوذ المتزايد للصين في شرق آسيا.

ويمكن القول إن حلم التعددية القطبية وعلى الرغم من مشروعيته، إلا أنه يظل يفتقد للقوة الناعمة، ويرتكز على واقع يميِّزه تواضع الاقتصاد الروسي وتراجع الاقتصاد الصيني، وتردّد الكثير من دول الجنوب وفي طليعتها الهند في الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب المتقدم بعلومه وتكنولوجياته ونموذجه المجتمعي المفتوح الذي يحلم به الكثير من شباب الجنوب، الأمر الذي يجعل أطروحة التعددية القطبية، البعيدة كلياً عن نموذج الحضارة الغربية، تبدو أحياناً أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2u53zctm

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"