لماذا غابت النكتة المصرية؟

00:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

من المعروف تقليدياً عن الشعب المصري أنه يتميز بخفة الظل والحس الفكاهي إلى حد السخرية المرّة أحياناً. ويكاد يجمع كل من زار مصر من عرب وأجانب في السابق على أن «النكتة» المصرية هي من أهم الميزات التي يلمحها وتترك لديه أثراً عن طبيعة هذا الشعب. حتى أنك تجد كتباً ودراسات، ليس باللغة العربية فقط بل بلغات أخرى، عن النكتة المصرية.

في تاريخ المصريين لم تقتصر النكتة على المزاح للتسلية فحسب، بل كانت دائماً أداة للنقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لأوضاع الناس المعيشية في فترات تاريخية مختلفة. وقيل من قبل إن المصري إن لم يجد ما يسخر منه بالنكتة يسخر من نفسه، كي لا يتخلى عن حس الفكاهة اللاذع هذا.

وارتبطت النكتة، السياسية والاجتماعية في الأغلب، بمراحل تطور مجتمعي معينة حتى أن بعض النكات يتم تحويرها كي تناسب عصراً أو فترة محددة، أما بعضها فيظل قاصراً على فترته ومرحلته، وإن لم تفقد فكاهتها.

قبل أيام تجمع عدد من الأصدقاء والزملاء القدامي، وإذا بصديق من بلد عربي لم نلتق به منذ سنوات يباغتني «ليه المصريين ما عادوا يقولون نكت».

فاجأني السؤال ولم أعرف كيف أرد، وانتبهت فعلاً إلى أن «النكتة المصرية» تكاد تكون اختفت تقريباً. صمت برهة، وحاولت الرد بكلام غير متماسك من قبيل أن انتشار الإنترنت ومواقع التواصل جعل أشكال التفكه والسخرية تختلف عن النكتة التقليدية. فكان رده أن ذلك أيضاً لا يزيد على «إعادة استهلاك افيهات من أفلام ومسرحيات ومسلسلات قديمة»، أي إعادة تدوير تفتقد إلى الإبداع.

كنت مقتنعاً بحجة الصديق، ولا أجد تفسيراً لغياب النكتة من حياة المصريين، وإن كنت استفضت في الحديث عن أنه ربما لاحظ ذلك، لأن أغلب الشعوب العربية أصبحت تبدع في الفكاهة وتطلق النكات ربما أكثر من المصريين. وأن الأمر لا يقتصر على النكتة، فلم تعد الدراما المصرية هي السائدة، بل إن دولاً ومجتمعات أخرى ناطقة بالعربية برعت فيها وفي نشاطات إبداع أخرى.

لا أظن أن صديقي أقنعته ردودي، كما لم أقتنع أنا أصلاً، وبدا كأنني أتخلص من موقف لا أجد له تفسيراً. عدت أبحث عن كتاب المفكر الراحل الدكتور جلال أمين بعنوان: «ماذا حدث للمصريين». وأعدت قراءة الكتاب ربما للمرة الثالثة، لكنه لم يشف غليل محاولتي فهم لماذا غابت النكتة المصرية؟.

لا يتعلق الأمر بوضع اقتصادي صعب، فحتى في أيام الشدة المستنصرية كان المصريون يتفكهون ويطلقون النكات. وفي غيرها من العصور، ولعل البعض يذكر نكت المصريين على أنفسهم في زمن النكسة عام 1967. وليس للأمر علاقة بكثير من مظاهر التراجع أو الانتعاش في جوانب النشاط البشري في المجتمع. فلماذا توقف المصريون عن الفكاهة والسخرية الممتعة؟

هل يمكن أن تصيب حالة من الاكتئاب شعباً بالكامل؟ لا أظن. هل هي حالة «انسحاب» وعدم مبالاة عامة؟ ربما. لكن ذلك أيضاً ليس تفسيراً. فهناك فترات شهد فيها المجتمع المصري حالات كمون مماثلة، لكنه لم يتوقف عن استخدام النكتة سلاحاً، للحفاظ على «رمق الروح» إن صح التعبير. على العكس، كانت تلك الفترات السلبية فرصة للابتكار الفكاهي كما يدفع الشجن والألم المبدعين في مجالات الفنون لإنتاج أفضل.

من الصعب تخيل أن شعباً بكامله، وتحديداً مثل الشعب المصري الذي تقلبت أوضاعه على مر آلاف السنين، وظل محافظاً على كثير من خصاله وسماته الأصيلة، يمكن أن يفقد هكذا روح المرح والفكاهة، والنقد اللاذع الممتع في الوقت نفسه.

لست متخصصاً في العلوم الإنسانية، وتقتصر معرفتي في أغلبها على قراءات متفرقة، لا تشكل معرفة تكفي للتحليل واستخلاص النتائج. لكن هناك ما يمكن تسميته «انطباعاً» أو «حدساً» بأن هناك ما يشبه التغير المناخي المجتمعي، أسهم في فقدان الروح الجماعية المتفكهة. ولا يقتصر ذلك على أوضاع اقتصادية أو سياسية أو حتى اجتماعية. ولا حتى يرتبط بتطورات التكنولوجيا ووسائل التواصل، وإن كانت أسهمت في ذلك التغير المجتمعي.

كانت النكتة في الأغلب تبدأ عفوية في تجمعات الناس، على المقاهي أو في الراحات في أماكن العمل أو في مجالس السمر.

فحتى وإن كان حس الفكاهة موجوداً، فلكي ينتج إبداعاً يحتاج إلى ذلك المناخ المجتمعي. وبما أن التواصل بين الناس ما عاد كما كان، واستعيض عنه بالدردشة الرقمية وغيرها، فربما من الصعب إبداع النكتة كما كنّا نعرفها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/95edxs9e

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"