عادي

«القودة».. أكفان بيضاء تطفئ نيران الثأر

22:48 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة: «الخليج»

أثارت صور لطفل في ال12 من عمره، وهو يتسلم «القودة»، لإنهاء خصومة ثأرية اندلعت بين عائلتين في إحدى القرى التابعة لمركز أبو تشت في صعيد مصر، منذ فترة، ردود فعل متباينة على مواقع التواصل، ما بين مؤيد لتلك العادة القبلية التي لعبت على مدار عقود دوراً كبيراً في التخفيف من استفحال ظاهرة الثأر في الجنوب المصري، ومعارض لاستمرار تلك التقاليد العتيقة، على ما تخلفه من آثار نفسية واجتماعية.

بدا مشهد الطفل، وهو نجل أحد الضحايا الذين سقطوا في سلسلة من جرائم الثأر التي اندلعت بين عائلتي الخطبة والجوالين في قرية الكرنك بصعيد مصر، يبعث على الرثاء، وهو يتسلم الكفن من أحد المتهمين بقتل والده، في جلسة صلح ضخمة، حضرها عدد من القيادات الأمنية والشعبية والتنفيذية، إلى جانب عدد آخر من كبار العمد ومشايخ القرى القريبة، ومندوب من الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، قبل أن يعلن الحضور «ردم بؤرة الدم» بين القبيلتين، في طقس يضرب بجذوره نحو قرون بعيدة مضت، ولا يزال حاضراً بقوة في المشهد الاجتماعي بصعيد مصر؛ حيث تعد القودة، واحدة من أبرز الطقوس الشعبية المصاحبة لإنهاء الخصومات الثأرية بين القبائل، وفيها يحمل القاتل كفنه، ليقوم بتسليمه إلى أسرة القتيل، طلباً للعفو والتنازل عن حق الدم.

وحتى عقود قليلة مضت، تصدرت ظاهرة الثأر المشهد الاجتماعي في صعيد مصر، قبل أن تنجح جهود القضاة العرفيين، في القضاء نسبياً على تلك الظاهرة، عبر تقديم «القودة»، التي تتم دائماً بعد مرحلة مفاوضات شاقة بين الطرفين؛ حيث لا تسمح أسرة القتيل دائماً بالتفريط في حقه، وإلا ضاعت هيبتها بين بقية العائلات، وقد كان الشخص المطالب بأخذ الثأر يتعرّض للعديد من الضغوط من قبيلته، لدفعه على رد العدوان بمثله، لدرجة أنه كان يتم الاستهزاء به، إن لم يسرع بأخذ بالثأر، وقد يصل الأمر حد دعوته بين الناس باسم أمه بدلاً من أبيه.

يلعب القضاء العرفي دوراً كبيراً في ردم بؤر الدم، التي قد تنفجر لأتفه الأسباب في العديد من قرى الصعيد في مصر، ودائماً تبدأ القصة بدخول محكمين عرفيين على خط الأزمة، في محاولات دؤوبة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، فيتحدثون مع أهل القتيل، ليقنعوهم بأهمية التصالح والعفو، ثم يحاولون إقناع أهل القاتل بالاعتراف بالخطأ، لمنع سيل الدم، ودائماً تنتهي تلك المفاوضات باستجابة عائلة القاتل، لطلب تقديم الكفن إلى أسرة القتيل، إيذاناً بوقف خيط الدم؛ حيث يتم ذلك بحضور عدد كبير من الأهالي، إلى جانب ممثلين عن الجهات التنفيذية والأمنية.

وتتخذ «القودة» في صعيد مصر أشكالاً متعددة، فبعض العائلات تصر على أن يرتدي القاتل الكفن، ويتقدم مشياً على الأقدام ليسلم نفسه إلى أسرة القتيل، وفي تلك الحالة يتحول إلى أحد موالي قبيلة الضحية، لا يتزوج إلا بإذنهم ولا يغادر البلاد، إلا بعد الحصول على موافقة بذلك، وقد اختفى هذا الأمر مع مرور السنوات، لتكتفي الأسر بأن يحمل القاتل كفنه على يده، ويسلمه لأحد أفراد أسرة القتيل الذي ينبغي عليه في ذلك الوقت أن يعلن أمام الملأ تنازله عن حق الدم بقوله للقاتل: «عفوت عنك لوجه الله، تعالى، ثم يقف رجال العائلتين في صفين متقابلين ليقسموا على كتاب الله، بأنهم قد أصبحوا إخوة، إعلاناً بنهاية النزاع، وبعدها يقوم أهل القتيل بتنظيم سرادق عزاء للضحية».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5ev3ejce

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"