عادي
الإسلام والآخر

حرية العبادة.. حق إلهي للآخرين

23:39 مساء
قراءة 4 دقائق
حرية العبادة.. حق إلهي للآخرين

كفل الإسلام لأصحاب الديانات السماوية الأخرى حرية العقيدة، وممارسة شعائرهم الدينية، وجاءت آيات القرآن الكريم مؤكدة حق الآخر في هذه الحرية الدينية، قال الله تعالى: (وَأنْزَلَنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48).

جاءت سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقاً عملياً لحق الآخر في حرية العبادة والاعتقاد، انطلاقاً من قول الحق سبحانه: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6)، وكذلك ترسيخاً لسُنَّة الله في خَلْقه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) (يونس: 99)، وكذلك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118).

وقد سبق أن ذكرنا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد نصارى نجران، حينما قدموا إليه في المسجد، وقد حان وقت صلاتهم، فسمح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، كما ذكرنا ما جاء في كُتُب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأساقفة نجران، وملوك حِمْيَر، من أن «لهم جوار الله ورسوله» وأنه «لا يُغَيَّر أسقفٌ من أساقفتهم، ولا راهب من رهبانهم، ولا كاهن من كهنتهم، ولا يُغيَّرُ حق من حقوقهم»، وكذلك «مَن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يُفتَن عنها»، حتى في أوقات الحروب، كانت وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لجنوده لا تخلو من «لا تقتلوا أصحاب الصوامع»، أي الرهبان الذين يتعبدون في صوامعهم.

وصايا الحرب

على هذا النهج القرآني والنبوي، سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما أوصى به الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه، جيش المسلمين بقيادة أسامة بن زيد، «لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».

حتى جاء عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وما كان من فتح بيت المقدس سِلْماً لا حرباً، حيث وافق أهلها على تسليم المدينة شريطة أن الذي يتسلم مفاتيحها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى أمير المؤمنين بما اتفق عليه الطرفان، فرحب عمر، وسافر إلى بيت المقدس، ودخلها سنة 15ه - 636م، وكان في استقباله بطريرك المدينة «صفرونيوس» وكبار الأساقفة، وبعد أن تحدثوا في شروط التسليم انتهوا إلى إقرار الوثيقة التي عرفت باسم «العهدة العمرية»، حيث أعطى أمير المؤمنين لأهل القدس الأمانَ لأنفسهم والسلامةَ لكنائسهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُالله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تُسكَنُ كنائسُهم ولا تُهدَمُ ولا يُنتَقَصُ منها ولا مِن حَيِّزها ولا من صَلِيبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحد منهم.. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك، خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة».

وذكر ابن خلدون في «تاريخه» أنه لمّا دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بيتَ المقدس، حان وقت الصلاة وهو في إحدى الكنائس، فقال لأسقفها: أريد الصلاة، فقال له: صلِّ موضعَك، فامتنع وصلّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، فلما قضى صلاته قال للأسقف: «لو صلَّيْت داخلَ الكنيسة لأخذها المسلمون بعدي وقالوا: هنا صلَّى عمر».

وجاء في كتاب «فتوح البلدان» للبلاذري أنه بمثل ما فعل عمر بن الخطاب مع أهل بيت المقدس، أعطى خالد بن الوليد رضي الله عنه الأمان لأهل دمشق على كنائسهم، وكتب لهم به كتاباً.. وكذلك فعل شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه بأهل طبرية، فأعطاهم الأمان على أنفسهم وكنائسهم.. وطلب أهل بعلبك من أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، الأمان على أنفسهم وكنائسهم فأعطاهم بذلك كتاباً.. وكذلك فعل مع أهل حمص وأهل حلب.. وأعطى عياض بن غنم رضي الله عنه لأهل الرقة الأمان على أنفسهم والسلامة على كنائسهم وكتب لهم بذلك كتاباً.. كما فعل حبيب بن مسلمة رضي الله عنه، الشيء نفسه بأهل دَبِيل، وهي مدينة في أرمينية، حيث أمَّنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وبِيَعِهم، نصاراها ومجوسها ويهودها شاهدهم وغائبهم. وكتب لهم بذلك كتاباً، وكان ذلك في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وجاء في كتاب «الأموال» لأبي عبيد القاسم بن سلام، أنه حين حصل شيء من الإخلال بهذه العهود رَدّه الخلفاء العدول وأرجعوا الحق لأصحابه، فعن علي بن أبي حملة قال: خاصَمَنا عجمُ أهل دمشق إلى عمر بن عبد العزيز في كنيسة كان فلان قطعها لبني نصر بدمشق، فأخرجَنا عمرُ بن عبدالعزيز منها وردها إلى النصارى.

فأيُّ دين هذا الذي يمنح الآخر حريته الكاملة في ممارسة شعائره الدينية، والحفاظ له على أماكن عبادته، انطلاقاً من المبدأ القرآني (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(الكافرون: 6)، والمبدأ المحمدي «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2pezveu3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"