اجتماعيات العنف وسياسياته

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

يمكن النّظر إلى العنف بوصفه ظاهرةً اجتماعيّة، أي مقترنة بالمجتمع ومؤسّساته ويوميّاته وعلاقاته البيْنيّة. وهذا أوّل مجالٍ يتمظهر فيه العنف ويعبّر فيه عن نفسه بما هو فعل يتوسّل القوّةَ لغرض الإخضاع المادي أو قصْد الانتقام أو من أجل الإفناء أو، حتّى، الدّفاع. يدخل هذا البعد المتعلّق باجتماعيّات العنف في نطاق المسائل التي يتناولها علم الاجتماع والأنثروپولوجيا، حتّى إنّ علماً اجتماعيّاً فرعيّاً وخاصّاً نشأ لدراسة الظّاهرة هو علم اجتماع العنف.

وغنيّ عن البيان أنّ العنف المدروس في هذه الميادين ليس عنف الفرد، بل عنف الجماعة أو العنف الجماعيّ: الذي تمارسه جماعات اجتماعيّة فئويّة وطبقيّة وجماعويّة. على أنّ عنف الأفراد ليس بعيداً، تماماً، من مجال اهتمام علماء الاجتماع وليس موضوعاً من أحكار علم النّفس وحده؛ فلقد يدخل في نطاق الدّرس السّوسيولوجيّ إن كانت آثاره تمتدّ إلى المحيط الاجتماعيّ وعلاقاتِه بدءاً من أصغر الوحْدات الاجتماعيّة: الأسرة، إلى أكبرها.

ولكنّ العنف، إلى اجتماعيّته، ظاهرةٌ سياسيّة أيضاً؛ تُلازِم الحياة السّياسيّة وتدخُل في تكوينها وأحياناً، تلعب أدواراً في توجيه مساراتها. وليس من تزيُّدٍ في القول إنّ العنف الذي قاد، في التّاريخ الإنسانيّ، إلى تكوين الدّولة في قلب الاجتماع البشريّ، مثلاً، هو عينُه الذي سوّغَ لمشروعيّة وجودِ الدّولة والسّلطة في ذلك الاجتماع، لاتِّصال قيامهما بمسعى إلى الاحتفاظ لهما وحدهما بالحقّ في ممارسة ذلك العنف بحسبان هذه الممارسة الوسيلةَ الوحيدةَ لردْع مَن يمارِسه من أفراد المجتمع وجماعاته من خارج القانون.

لذلك يبرُز الاقتران بين السّياسة والعنف، أكثر ما يبرُز، في هيكليّة الدّولة نفسِها: التي هي محرِّك السّياسة وعربةُ قيادةِ قاطرتها. بيانُ ذلك أنّ قسماً من أجهزتها موكولة إليه وظائف ممارسة العنف ضدّ مَن يهدّدون الأمن والاستقرار في الدّاخل وفي الخارج؛ وهو عنفٌ يتغيّا - في نظريّة السّياسة - احترام القانون وحماية السّيادة اللّذين بهما يكون الاستقرار.

هكذا هي حال أجهزة ومؤسّسات مثل الأمن والجيش والسّجون، حتّى القانون نفسه ينطوي في أحكامه على قدرٍ من العنف (الإلزام الإجباري) الذي من دونه لا يكون نظامٌ سياسيّ ولا سلطة. هكذا نُلفي مؤسّسات العنف، داخل كيان الدّولة، منصرفةً إلى القيام بأمره من حيث هو من عُدّة اشتغال السّلطة؛ وفي ذلك ما يشهد بالتّلازُم العضويّ بين السّياسة والعنف، في تاريخ المجتمعات السّياسيّة، بل فيه ما يدُلُّنا على مركزيّة العنف في السّياسة، حتّى وإن نجح البناء القانونيّ والإيديولوجيّ في إخفائها أو في عدم الإيحاء بها.

يدخل النّظر في سياسيّات العنف في نطاق علومٍ وميادين دراسيّة عدّة: علم السّياسة، علم القانون، علم الاجتماع السّياسيّ، الأنثروپولوجيا السّياسيّة، وقبل هذا كلِّه الفلسفة السّياسيّة. تختلف مقاربات هذه العلوم إلى الظّاهرة باختلاف الزّاوية التي يَنظر منها إلى المسألة كل ميدانٍ معرفيّ من الميادين المذكورة.

وعلى ذلك، لا يملك النّاظر إلى ظاهرة العنف من موقع الفلسفة إلاّ أن يعترف بأنّ العلوم الاجتماعيّة الحديثة قدّمت معرفتَنا، كثيراً، بهذه الظّاهرة وفتحت وعينا على أبعاد عديدة فيها ما كانت تتبيّن للفلاسفة حين تناولوها في نطاق فلسفة السّياسة، حصراً، وبمفاهيمها الخاصّة.

صحيحٌ أنّ التّفكير الفلسفيّ في العنف يبني مفهوم العنف بناءً نظريّاً شاملاً ومتماسكاً، ويستشكل علاقاته بالسّياسة والمجال السّياسيّ، ويميّز فيه بين ما هو ذاتيٌّ، منبعُه الذّات: ذات الفرد أو الجماعة، وما هو موضوعيّ تفرضه علاقات الواقع الخارجيّ وأحكامُه القهريّة؛ وتلك حالُه مع كلِّ موضوعٍ يتناوله بالدّرس.

مع ذلك، فتحتْ مقارباتُ الظّاهرة من موقع العلوم الاجتماعيّة الباب أمام رؤيةِ ما بين السّياسيِّ والاجتماعيِّ من ترابُط ما كان يمكن ملاحظته في السّابق؛ ومن ذلك مثلاً ما لاحظتْه تلك العلوم من ميْل ظواهر عدّة، مثل العنف، إلى التّمظهر في صُورٍ مركَّبة يستعصي فيها ردُّها إلى الحقل الاجتماعيّ مستقلاًّ أو إلى الحقل السّياسيّ مستقلاًّ لِما يتخلّلُها من تداخُلٍ بين البعديْن.

على أنّ الفلسفة السّياسيّة لم تكن تُغضي، تماماً، عمّا بين السّياسيِّ والاجتماعيِّ من صلاتٍ ووشائجَ، فكانت تستدخل الكثير من البعد الاجتماعيِّ في نطاق التّفكير الفلسفيّ في السّياسة. لا يتعلّق الأمر في ذلك بالفلسفة المعاصرة التي تفاعلت مع علوم المجتمع والإنسان، فاتّسعتْ نظرتُها إلى السّياسيّ، فقط، بل يتعلّق بما ظلَّ فيها مألوفاً درجت عليه منذ عهدها اليونانيّ. آيُ ذلك أنّ سياسيّات أفلاطون وأرسطو كانت منشغلة بموضوعات هي من صميم المجتمع مثل الأسرة، والعبيد، والتّجار، والمحاربين، والتّربيّة... في الوقتِ عينِه الذي كانت فيه هذه الموضوعات جزءاً من معمار فلسفة السّياسة: من التّفكير في المدينة (الدّولة) ومَن هُم المواطنون فيها، ومن الذي ينتمي إلى عالم الضّرورة والذي ينتمي إلى عالم الشّؤون العامّة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3tr3yp2y

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"