من آثار الحرب الإسرائيلية في غزة

00:06 صباحا
قراءة 4 دقائق

يفرضون علينا الانشغال باليوم التالي في غزة، ودورنا فيه كعرب مختارين بدقة، وعناية. وبالفعل، انشغلنا كما أرادوا لنا أن ننشغل. ينسون، وبعضنا نسي، أن إسرائيل والصهيونية العالمية، ويهود، وأطرافاً آخرين غير العرب، وقضايا أخرى، وتطورات وقعت، وواقعاً استجد لن يكتمل اليوم التالي إلا بهم، وبها، وبه. اخترت اليوم أن أعرض في السطور التالية لمحات سريعة عن بعض أهم الآثار التي نتجت عن حرب غزة، وعناصر أخرى أسهمت، وتسهم بالقدر الأوفر، في صنع الصورة المتوقعة، بخاصة لإسرائيل في اليوم التالي لحرب فلسطين، أو حرب غزة، كما يحلو للبعض تسميتها.

* أولاً: القطب الأعظم يواصل انحداره، النسبي والمطلق، متأثراً بمأساة حرب غزة، ومخلفاً في مسيرته المترددة، والخاطئة، أوضاعاً، دولية وإقليمية. اتسمت بعض هذه الأوضاع بدرجات عالية من العنف، والتشرذم، وارتفقت بوضع في البنى الداخلية تميزه درجة أعلى من الضعف، والتهالك. أعني بصفة خاصة ظاهرة انكشاف حال تخبط النخبة الحاكمة نتيجة ترهّل، أو شيخوخة قياداتها، ونتيجة، وهو ما يهمنا في مناقشة القضية الشاغلة لنا، انكشاف حال خضوع النخب الأساسية في أمريكا لهيمنة أقلية صهيونية تدير، وتسيطر على قطاعات مهمة في اقتصاد الدولة، وتوجهاتها الدولية، واستراتيجياتها العسكرية، في الشرق الأوسط تحديداً. هذا الانكشاف على حيائه، وتردّده، كان الأهم في تاريخ طويل من العلاقة بين أعضاء الكونغرس وقادة الحزبين من جهة، ومندوبي الصهيونية العالمية من جهة أخرى.

* ثانياً: حدث هذا الانكشاف تحت وقع سلسلة صدمات أصابت الأقلية اليهودية في أمريكا، كما في دول غربية أخرى، كردّ فعل مباشر لحرب الإبادة التي شنها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة. انقسم اليهود الأمريكيون كما لم ينقسموا من قبل، وتضررت سمعة إسرائيل كما لم تتضرر من قبل، وجرى الحديث عن جيل جديد من شباب تمرّد، للمرة الأولى،على هيمنة القيادة الصهيونية الضابطة، منذ نشأتها، لنبض وتوجهات شباب اليهود في العالم الغربي.

* ثالثاً: نعرف حجم الضرر الذي لازم منظومة السياسة الخارجية الأمريكية، منذ أخطأت خطأها الجسيم حين شنت باندفاع، ومتأثرة بآثار الهجوم على برجَي التجارة في مانهاتن، حرباً بعد أخرى في أفغانستان، ثم العراق، مهدّدة إلى يومنا، هذا أركان الاستقرار في أكثر من مكان في الشرق الأوسط. نعرف حجم الضرر. نعرف أيضاً أن ما أصاب سمعتها بضرر يكاد يضاهيه ما أصابها من ضرر آخر، تسبب به تواطؤها مع إسرائيل في حرب غزة، علناً وسراً، وبمنهج دبلوماسي يعتمد الكذب، والخداع، والاستهانة بعقول العرب، منهج جعلنا نتذكر أساليب المبعوثين الإنجليز، والسكرتير الشرقي في السفارة البريطانية، في موقعها الحالي على ضفة نيل حي جاردن سيتي.

* رابعاً: بعد تسعة أشهر من حرب دامية ضد شعب أعزل من كل سلاح فعاّل، باستثناء مقاومة مخلصة وصادقة، انهارت نظرية تحوّلت بفعل قوى إعلامية صهيونية وغربية إلى أسطورة. انهارت أسطورة التفوق الهائل في قدرات الردع العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي. سقطت الأسطورة مع سقوط كثير من جنود إسرائيل، وضباطها، ومع توقف عجلات الإنتاج في العديد من المواقع الإسرائيلية، بخاصة في قطاع الإلكترونيات في الجليل الأعلى، ومع زيادة معدلات الهجرة من إسرائيل إلى خارجها، ومع انفراط وحدة نخبتها السياسية الحاكمة، ومع انشقاقات عسكرية غير مألوفة.

* خامساً: تشوهت سمعة «الدولة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، السمعة التي تاجرت بها إسرائيل لتحصل على مواقع ومزايا تخفي بها أعمالها المستمرة في تجاوز القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة.

قرأت بعض أدبيات الجماعات اليهودية، ومعها ما نقله عن العبرية الزميل من المنصورة يحيى عبد الله، عن نص من حديث صحفي أجراه الحاخام يتسحاق جينزبورغ، المرشد الروحي لقطاعات واسعة من المستوطنين، مع صحيفة «معاريف» قبل ربع قرن. يقول رجل الدين كبير المقام «هناك مفهوم العالم الثالث، وهو العالم الأكثر بدائية في سلم الشعوب، والمقصود به العالم العربي، وهو العالم الذي تحفزه طبيعته الحيوانية على قتلنا وإبادتنا. إن الشعب اليهودي، طبقاً «للقبالا» (التصوف اليهودي)، هو المخلوق البشري الأكثر تقدماً، سواء في الفعل، أو في العاطفة، لكن «يشمعئيل» (إسماعيل بني إسماعيل) فشعبه من العبيد، ومن طبيعة العبد أنه فاجر، ومنفلت».

* سادساً: قصيرة هي الفترة الزمنية التي عاشتها دولة إسرائيل، ولكن طويلة، وكاشفة حربها المدمرة في فلسطين. كلاهما خلف آثاراً واضحة في الإقليم. إن الغرب ككتلة حضارية، خرج من هذه الأزمة مثقلاً بذنوب أضافت إلى أحمال كانت كافية لإنهاكه خلال معارك المواجهة مع روسيا، والمنافسة مع الصين. ثم كانت إفريقيا القارة التي عانت من وحشية إسرائيل، والموقف الرائد والرائع لدولة جنوب إفريقيا لتذكير القارة السمراء بماضي التفرقة العنصرية اللعينة، والحاجة إلى ثورة إفريقية جديدة تتصدى بها لجحافل جيل جديد من المستثمرين العنصريين البيض، الزاحفين نحو مناجم جديدة، وثروات مدفونة.

لديّ انطباع أن الجهة «العميقة» المنظّمة والمحركة للصهيونية العالمية لن يهدأ لها بال حتى تعيد إلى الحركة وبسرعة، أحلام الآباء المؤسسين في القرن التاسع عشر. لديّ انطباع بأن إسرائيل، بخاصة المستوطنين والمهاجرين الجدد، لن يتوقفوا عن الزحف لهدم كل إنجاز، أو دليل على وجود لشعب فلسطيني على هذه الأرض.

هذه الانطباعات وغيرها تستحق مساحة أوسع من العرض والتحليل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/c38jn7w2

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"