الهوس بالشرق يضرب الحضارة الغربية

زيارات الرحالة الفرنسيين إلى فلسطين في القرن 19
01:17 صباحا
قراءة 7 دقائق
الرحلة إلى الأماكن المقدسة عنوان الكتاب الصادر مؤخراً في سلسلة شرق الغربيين التي تعنى بنشر رحلات الرحالة الغربيين إلى الشرق، ويعنى بتقديمها المركز العربي للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق في أبوظبي ولندن وبيروت، والكتاب جزء من مشروع سيعنى بموسوعة الرحلة إلى بيت المقدس وتضم النصوص المكتوبة باللغات المختلفة وعلى رأسها العربية. ويشغل حقل الترجمة مساحة أساسية في المشروع، وهذا الكتاب من ترجمته ووضعت مقدمته د. مي عبدالكريم يأتي في إطار الاحتفاء بالرحلة إلى بيت المقدس في يوميات الرحالة الفرنسيين إلى الشرق. من أمثال نرفال وشاتوبريان ولامرتين وفلوبير وغيرهم من رحالة القرن التاسع عشر. ولابد من الإشارة إلى أن سلسلة كتب الرحلات هذه ستصدر تباعاً تمهيداً للاحتفال بالقدس عاصمة الثقافة العربية.بداية لابد من الإشارة إلى أن الرومانطيقية تتابع الرحيل إلى الشرق، بعد أن كانت الكلاسيكية سبقتها بكثير، فقد استمدت قوتها وسلطتها أي الكلاسيكية -من الرحلات التبشيرية والإرساليات الدينية، وطواف الآباء الكبوشيين من أتباع الأب جوزيف الذين كانوا يبحثون عن التراث البيزنطي الذي قامت على جغرافيته الإمبراطورية العثمانية، ومن القصص والحكايات التي استمدت مسرحها من ديكور الشرق وعاداته وسلوكه، مثل الرسائل الفارسية لمونتسيكيو، ورواية صادق لفولتير، ورواية صفية لكريون، ومذكرات السراي لدوشامب، وحاجي بابا لمونتريون، ورقصة علي خان لمسترودولاتور، كما كانت هناك على المستوى الدولي متطلبات الحياة السياسية والحربية في أوروبا وذلك باختلاق المشكلة العثمانية، وكانت هناك أيضا متطلبات التجارة العالمية والتي يطلق عليها (سياسة كوبرت).الرحلة إلى الشرق: ومنذ ذلك الحين قامت أكبر ثورة شرقية في الثقافة الغربية كانت لها معاييرها وتراثها، وقد أفادت كثيرا من فلسفة عصر الأنوار ومن متنوري القرن الثامن عشر بدءا من فولتير حتى مونتسيكيو، واستمدت هذه الفلسفة التواقة إلى كل ما يمت بصلة للمعارف الانثروبولوجية والإثنوغرافية والطبيعية ومصادرها من الرحلات إلى الشرق، إذ إنها عززت من خلال هذه الرحلات نظرياتها حول التعصب الديني، ونظريات الاستبداد السياسي، ومفاهيم العقلانية والتنوير واليوتوبيا، والمفاهيم التي كانت تطالب بها الانتلجنسيا الغربية في إطار نشوئها الثقافي والسياسي والاجتماعي.أما من جهة المصطلح ونشوئه وتكونه، ففي الواقع لم يستقر مصطلح (الرحلة إلى الشرق) إلا في القرن التاسع عشر ومع الرومانطيقيين حصرا، وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو لامارتين في رحلته إلى الشرق (كانت مفردة شرق نسبة إلى الانسكلوبيديين الفرنسيين تشير إلى مفاهيم فلكية، أكثر مما تشير إلى مفاهيم انتروبولوجية، وكانت كلمة شرق ملتبسة بحق، أما استخدام هذا المصطلح فقد مر عبر تطورات مختلفة في الثقافة الغربية). وقد خصص المعجم العالمي للقرن التاسع عشر لمؤلفه (بيير لاروس) عموداً كاملاً للمعنى الجغرافي، وينتهي إلى القول إنه من الصعب تحديد البقعة التي نطلق عليها الشرق، وفي الواقع أن هذه العبارة الغائمة، كانت نتاجا استيهاميا صدر عن التمركز العرقي الأوروبي أكثر مما هو حقيقة موضوعية.الغرب يحلم: كما أن الرحلة إلى الشرق لم تكن ظاهرة سياحية فحسب، إنما كانت الظاهرة السياحية واحدة من نتائجها، بل هي ظاهرة تتضمن الحلم والاستيهام والتمثل والكتابة والرسم والموسيقا والثقافة الاجتماعية والعادات والسلوك، فضلا عن أنها كانت مادة للصالونات الأدبية كما حدد ذلك ريمون شواب. في كتابه المثير (النهضة الشرقية). (في تتبع شيق لريمون شواب في كتابه النهضة الشرقية يبين تأثير كوفيه في الصالونات الأدبية التي يرتادها أوان ذاك، وتأثير مفردة (الشرق) الساحرة على الأدباء الذين كانوا يرتادون هذه الصالونات) وكان لها سمة التكرار والتعاقب حتى صارت لازمة، ولهذا شغل السراب الشرقي -وهي العبارة التي أطلقها لويس برترون- مكانا بالغ الأهمية في الوعي الأوروبي في القرن التاسع عشر، هذا السراب الذي يكشف عن مخيال محكوم عليه أن يعيد إنتاج الآخر بلا انقطاع، وكان هنالك جمهور بأكمله في أوروبا يبحث عن الرحلة إلى الشرق وهو جالس على الأريكة، كان يريد أن يجول في الشرق وهو غارق في أحلامه في منزل منعزل في أوروبا، فلم يكن بإمكان الجميع الرحلة إلى الشرق، إنما بقيت مقصورة على الطبقات البرجوازية التي صاغت مفهومها الخاص بها عن الشرق، فالطبقة السياسية والاجتماعية لم تكن متحررة من انشباكها السياسي والتصوري للعالم، لذلك بقيت هذه التصورات التي حكمت قرونا بأكملها مصاغة ومصنوعة من قبل طبقة واحدة، وتحت تصور ديني وثقافي واحد.ومن الجدير بالذكر هنالك تمييز واضح بين نوعين من الرحلات، فهنالك الرحلة العلمية الخالية من الادعاءات الأدبية، ينشغل الرحالة فيها بشكل خاص بالوصف الاثنوغرافي والمناخي والنباتي والحيواني والمعدني والآثاري والاجتماعي، وكانت هنالك الرحلة الأدبية، وهي نوع من الخطاب الأدبي الذي يرتكز على مفاهيم استشراقية مصاغة بأسلوب سردي وبلاغي وشعري، وقد شهد القرن التاسع عشر تطورا معاكسا للرحلة العلمية بوساطة الرحلة التي قام بها الأدباء، فالأدباء لم يذهبوا بعيدا جدا عن مسارات محددة لرحلتهم، ولم يجازفوا بالخروج عن الطرق المعهودة التي شقها الجنرال غورو، لأن لهم غاياتهم الثقافية والأدبية الخاصة بهم، ولم تكن المعرفة العلمية والانتروبولوجية تعنيهم على وجه الخصوص، وإن ارتكزت كتاباتهم على الوصف الاثنوغرافي، والوصف الجغرافي، والعناية بتكون المجتمعات والتاريخ والأساطير، فكان وجود هذا الأمر قائما لتعزيز الوقائع السردية والسيروية لرحلتهم، ولم يقصد منها المعرفة المباشرة، ولكن المفارقة في الأمر هي أن هذه الرحلات التي ترتبط بالخيال في أحيان كثيرة كانت تستخدم في الخطاب السياسي الكولنيالي، وفي صياغة مفهوم الشرق- الآخر في أوروبا على نحو واسع.مدن الرحلة: لقد استقرت الرحلة في القرن التاسع عشر حول عدد من المدن الكبرى فضلا عن المنطقة المحيطة ببحر الشمال، مثل: اسطنبول، القاهرة، بغداد، دمشق، القدس، فالرحالة- العالم في القرن السابع عشر (نيبور مثلا) كان قد ألف حياة القوافل وترك نفسه إلى الصدفة التي تقوده في تتبعه لطرق مختلفة، ومسارب متنوعة من المجاهل الشرقية، مما كان يؤدي ذلك إلى انحرافه، وضياعه أحيانا في الصحارى والجبال، مما يجعله هذا الأمر مكتشفا لمجاهل لولا الصدفة ما كان له الحصول عليها، وهو ما يطلق عليه الاكتشاف العلمي، بينما كان الرحالة الأدباء يزورون المناطق ذاتها، والأماكن ذاتها، فتوفرت لدينا مجموعة هائلة من الملاحظات المختلفة، التي تخص رحالة مختلفين، لكنها تدور في أماكن واحدة.وعند منتصف القرن التاسع عشر قدمت رحلة فلوبير وماكسيم دوكومب على العكس من ذلك إنموذجا للمسار التالي: مصر- فلسطين-لبنان-آسيا الوسطى- اسطنبول- أثينا اليونان- إنه المسار الدائري الذي ابتدعه شاتوبريان والذي استعاده بلا انقطاع الرحالة الذين جاءوا بعده مع بعض التنويعات. (في الواقع كان حسن النوتي أول من بين أهمية رحلات الأدباء الفرنسيين إلى الشرق، وبين الطابع الرومانطيقي للرحلات الفرنسية على خلاف الرحلات العلمية ذات الطابع التجريبي، وقد اعتمد ادوارد سعيد اعتمادا كاملا في كتاب الاستشراق على حسن النوتي في تحليله للفصلات الأدبية والاستيهامية في عمل الأدباء الرحالة).فضاء الأراضي المقدسة: وهنالك دليل كان يتقيد به الرحالة يطلق عليه دليل جوان (يتضمن هذا الدليل مسارا واحدا ويقترح تقويما مناسبا هو (البقاء شتاء في مصر، قضاء عيد الفصح في القدس، التحرك نحو جرش والبحر والميت شرق الأردن، ثم العودة إلى القدس والذهاب إلى سوريا في الصيف ثم العودة إلى مصر) حيث يقوم جميع الرحالة بتتبعه، فظهر أدلاء محترفون، وخبراء عارفون بطرق الحج، ووكلاء رسميون يقودون الرحالة من مكان إلى مكان، وهو نفس الخط الذي يرتاده جميع الرحالة في زيارتهم للشرق، وتقع الأماكن المقدسة في القدس والجليل وبيت لحم في المقدمة.في الواقع إن أدب الرحلات ليس جنسا بالمعنى الشكلي أو الأسلوبي للجنس الأدبي كالرواية والشعر والدراما، إنما هو جنس أدبي بالموضوعة، فلم تكن هناك محددات شكلية أو أسلوبية لكتابة الرحلة، بل استخدم الكتاب الرحالة جميع محددات الأجناس الأدبية، فاستعاروا التقنيات السردية والوصفية من الرواية، الاستعارات الشعرية والبلاغية من النظم، كما أنهم أفادوا من أدب الرسائل واليوميات والتأملات الغنائية، والقاسم المشترك بينهم هو أنهم، رحالة، أدباء، اتبعوا خطى شاتوبريان في كتابه (من باريس إلى القدس)، وساروا على نهج من أعلن متباهيا أول مسار للحج إلى القدس، إذ إنه بدأ رحلة حجه إلى الأراضي المقدسة في العام 1806. وقد كرس لرحلته ما يقرب الألف فرنك فرنسي آنذاك.لقد كانت رحلة شاتوبريان جد شاعرية، إلا أنها لم تكن تنفلت من الطابع المفكك الذي وسم جميع الرحلات التي تلته، والتي حاولت الحفاظ على الطابع المعاش للرحلة، وحاولت أن توهم بشكل كبير بالصدق الواقعي، وكان البعد السيروي يظهر من خلال تفككها، وعفويتها، وطلاقتها، فقد كان الرحالة يحرص على تقديم المادة الكتابية دون عناية، لكي يستطيع الحصول على أكبر قدر ممكن من إيهام القارئ، وإقناعه بأن ما كتبه كان مرتجلا، حتى أصبح الكاتب يكتب من خياله أكثر مما كان يشاهده حقيقة، وقد اكتشف الجيل التالي هذه الخدعة الرومانطيقية، بعد أن توافدوا إلى الشرق، وعرفوا مقدار الوهم الكبير الذي صنعه الكتاب في الشرق، وهم من أطلق عليهم بيير لوتي ب المبرئين من السحر.في الواقع أن خيبة الأمل التي شعر بها أغلب الرحالة، هي بسبب المبالغات التي تحملها تصوير الشرق من الجيل الأول إلى الجيل الثاني، ويقصد بيير لوتي بكتابه الذي أطلق عليه المبرؤون من السحر انقشاع الوهم عند أول رحلة للشرق، نسبة إلى الجيل الذي تلا شاتوبريان ولامارتين، في الواقع، تشترك جميع الرحلات بذلك الميل المطرد لمعالجة الواقع الشرقي بوصفه لوحة شعبية من الدرجة الثانية.العودة إلى الأصل: في الواقع كان هنالك هوس بكل ما هو شرقي، هذا الهوس الذي شمل الحضارة الغربية بأكملها، حتى تحول إلى سلطة غالبة فرضت نفسها على طقم كامل من التصورات النظرية والفكرية والتنهجات السياسية والاجتماعية، فجاءت الرحلة إما لتدمير هذه الوساوس، أو لإشعالها بوساطة فرض نظام تصوري كامل على الفضاء الذي تدور فيه الرحلة، فقد اتخذت الرحلة في القرن التاسع عشر سمة الاحتفالات الطقسية الجماعية، لأنها تحتوي على قيمة اسرارية اجتماعية غايتها التأكيد على النظام الثقافي الغربي، فقد كانت نوعا من التمثل للمصدر الأساس الذي نشأت على ضوئه الحضارة الغربية، لأن الثقافة الغربية طارت بجناحين جناح التراث الإغريقي من جهة، وجناح اليهومسيحي من جهة أخرى، وكان الشرق وهو الجغرافيا التي وقعت عليه جميع أحداث التوراة، يمثل للرحالة في ذلك العصر طقسا لاجتياز أمثل، واحتياز أمثل، ذلك لأنها كانت تسمح بالعودة إلى أصول الثقافة الغربية ومصادرها الحقيقية والاحتياز عليها، إنها عودة إلى ما يسميه بالانش مهد الحضارة الغربية النشوكوني، وقال برشيه بحق: لكي يبلغ القرن التاسع عشر الأوروبي التركيبة الكونية التي قدر أن من واجبه تحقيقها، فقد أحس بالحاجة إلى العودة إلى الأصل.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"