الحياة البرزخية

من مشاهد الآخرة
03:47 صباحا
قراءة 5 دقائق

يولد الإنسان ويعيش عمره ويموت فتقوم قيامته، وينتقل إلى حياة وسيطة بين الدنيا وما كان فيها، وبين الآخرة وما يكون فيها، هي الحياة الفاصلة بين حياتين، الحياة الأولى والحياة الآخرة، تسمى بالحياة البرزخية، والبرزخ في كلام العرب هو الحاجز بين الشيئين، كما في قوله عز وجل: وَهُوَ الذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً#171;، وقوله تعالى: مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان#171;، والمراد هنا معنى الحاجز والفاصل، أما البرزخ في الشريعة فيراد به الدار التي تفصل بين الدارين، وتعقب الموت وتستمر إلى البعث، كما في قوله تعالى: حَتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَب ارْجِعُونِ، لَعَلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

القيامة الصغرى

التصديق باليوم الآخر أحد أهم أركان الإيمان، والإيمان بالحياة البرزخيّة جزءٌ من الإيمان باليوم الآخر، لأنه أوّل عتباته، أو لنقل: هو بوّابته، ولا يكمل إيمان المرء ما لم يستقر في قلبه ويؤمن إيماناً جازماً بأن من مات فقد قامت قيامته، وهو ما يسميه العلماء القيامة الصغرىوالمعاد الأوّل#171;، وهذان الاسمان يطلقان على الحياة البرزخيّة، تلك الحياة التي تسبق البعث والنشور .

البرزخ: هو حياة القبر، وهي ليست كحياة الدنيا ولا كحياة الآخرة، بل هو ميت الجسد، لكن روحه إذا كان من الكافرين هي في أسفل سافلين تعذب، وإن كان من المؤمنين فإن روحه تنعم عند الله سبحانه وتعالى، وقال ابن القيم: عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، ويشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الميت يسمع قرع نعال أصحابه بعد وضعه في قبره، فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم. ووقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام من معركة بدر على قتلى المشركين فنادى رجالاً منهم، فقال: يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كيف يسمعون أنى يجيبون وقد جيفوا؟#171;، قال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا#171;، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر .

تعذيب المنافقين

وقد قال ربنا عز وجل في محكم آياته: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب(غافر: 46)، والمعنى المقصود أنهم يعرضون على النار فيصلهم من سمومها وعذابها . ونلاحظ أن العطف في قوله تعالى: ويوم تقوم الساعةيدل على أن عرضهم على النار حاصلٌ قبل يوم القيامة، الأمر الذي يُثبت وجود الحياة البرزخيّة قبل الآخرة .

دليل آخر على الحياة البرزخية يأتينا في قوله تعالى: وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم(التوبة: 101)، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى كتب على أولئك المنافقين أن يُعذّبوا مرّتين، إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر، وهذا الذي اختاره الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، حيث قال: قوله جل ثناؤه: ثم يردون إلى عذاب عظيم#171;، دلالة على أن العذاب في المرتين كلتيهما قبل دخولهم النار . والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر.

وإذا أردت دليلاً آخر فاقرأ قوله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء(إبراهيم: 27)، ودلالته على الحياة البرزخيّة مأخوذ من حديث النبي، صلى الله عليه وسلم: المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة(متفق عليه) .

المعيشة الضنك

وفي قوله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى(طه: 124) . دليل آخر على الحياة البرزخية، فالآية تبيّن أن جزاء المعرضين عن الدين والغافلين عن ذكر ربهم المعيشة الضنك، وكما يبين من العطف في قوله تعالى: ونحشره يوم القيامة أعمىأن هذا الضنك حاصلٌ قبل يوم القيامة، والحياة البرزخيّة داخلةٌ في هذا الإطلاق، وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بعذاب القبر وذلك في قوله: ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له ذلك مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو أطعته، فيزداد حسرة وثبورا، ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهي المعيشة الضنك#171;، وليس في قوله الله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى#171;، حصرٌ لمعنى الآية وقصرِه على عذاب القبر، فالآية أعم من ذلك .

وفي الصحيحين، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ عجوزان من عُجَز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إن عجوزين من عُجَز يهود المدينة دخلتا عليّ، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقتا، إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم#171;، تقول عائشة، رضي الله عنها: فما رأيته، بعد في صلاة، إلا يتعوّذ من عذاب القبر.

وهناك الحديث المتفق عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما يثبت عذاب القبر الحاصل في الحياة البرزخية، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبريهما، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: يعذبان، وما يعذبان في كبير#171;، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. ثم دعا بجريدة، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لمَ فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبساأو: إلى أن ييبسا#171;، (واللفظ للبخاري) .

والحق أن إنكار وجود الحياة البرزخيّة هو إنكارٌ لعذاب القبر ونعيمه، وإنكار ذلك هو جحدٌ لما هو معلوم من الإسلام بالضرورة، وعليه مذهب سائر المسلمين، وهو قول السلف قاطبة، وأهل السنة والجماعة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"