مقاهي الكتب..القراءة في حضرة الجمال

أماكن
01:09 صباحا
قراءة 7 دقائق
الشارقة: محمدو لحبيب

علاقة المقهى بالكتاب هي علاقة يصعب تفكيكها من دون النظر في المدى المتسع الذي يمكن أن يطل عليه الناس من كليهما، فالمقهى حين ينفتح على أفق واسع يحيطه البحر أو تزينه الخضرة، أو يحده ديكور وتصميم خارج عن المألوف، يمنح الجالس فيه شعوراً بالامتداد اللانهائي، والكتاب بطبعه هو فسحة على عالم ممتد خارج الأسطر والكلمات والصفحات، نحو فضاء واسع من المعرفة الرصينة أو الخيال المجنح، لذلك تبدو العلاقة بينهما مشتبكة جداً، ومنطقية جداً في أغلب الأحيان.
ليس صدفة أن نجد تمازجاً بينهما فيما يسمى بالمقاهي الثقافية التي غالباً يكون لها تصميم خاص وعادات وتقاليد مميزة تجعل المتلقي حين يدخلها يشعر أنه لم يأت فقط لتزجية وقته الذي طال عليه، بل لاكتساب معرفة وفق شروط خاصة، تلك الشروط المرتبطة بشكل عام بالتفاعل مع الآخر.
ثمة إذن سحر خاص في المقهى الثقافي، فحين يوضع كتاب ما، بجانب كوب قهوة ساخن في مكان مفتوح في مواجهة منظر جميل، ينهض الشغف في نفس الشخص الجالس وسط ذلك المشهد، ويقبل على القراءة أو على نقاش جماعي قد يدور حول ذلك الكتاب أو حول غيره من الكتب.

رحلة

لقد تعودت الشارقة منذ سنوات عديدة على أن تكون منصة لتلك الرحلة التاريخية المستمرة منذ الكلمة الأولى وحتى الآن، حيث يمر فيها الكتاب من أرفف المكتبات الصامتة إلى عمق وقلب حركة الأشياء في حياة الناس واستعمالاتهم اليومية، وفي عمق تلك الحركة الثقافية تبرز مكانة المقهى كوسيط تفاعلي كان في ثمانينات القرن الماضي في الشارقة، محركاً بارزاً لعملية تداول الكتب والنقاش حولها وحول كل المعطيات المعرفية التي تمد بها قراءها، ثم خضع لعدة تغييرات عصفت بدوره، في ظل ثورة الاتصالات وإعلام مواقع التواصل الاجتماعي والنمط المعرفي الذي تبشر به، وها هي الشارقة تستعيد بإصرار دور تلك المقاهي من خلال مبادرات صممت بشكل مدهش، متوخية تلافي كل النواقص التي أدت إلى عزوف الناس عن المقاهي الثقافية، ويمكن على سبيل المثال ذكر تجربة مقهى الراوي الثقافي المطل على المجاز، ومقهى حديقة الكتب في منطقة مويلح، إضافة إلى التجربة الجديدة التي أطلقتها هيئة الشارقة للكتاب هذا العام تحت عنوان «مقهى النشر الإبداعي»، لكن قبل استعراض تلك النماذج، ثمة أسئلة عديدة يجب أن تطرح لندرك أهمية وجودها، وأنها ليست فقط مجرد واجهات جميلة مبهجة، ولا مناطق للسياحة الذهنية فقط، بل هي ضرورة ثقافية يجب أن تتمدد لتتولد من خلال تحقيقها مقاهٍ أخرى ومبادرات جديدة في هذا السياق.
السؤال الأبرز: ما الذي جعل مقاهي الثمانيات تختفي أو لنقل يتراجع اهتمام المثقفين بها، وينتهي بها المطاف إلى أن يتحول معظمها إلى محلات تجارية أخرى أو تكون مجرد مقاهٍ تقدم الشاي والقهوة وغيرها؟.
لقد أشرنا آنفاً إلى دور الثورة الاتصالية ومواقع التواصل الاجتماعي في اجتذاب الناس بعيداً عن المقاهي كوسط تفاعلي ثقافي، لكن ما لم نقله وما يجب التساؤل حوله هو: هل كان عزوف المثقفين والقراء وعاشقي الكتاب وعوالمه عن المقاهي الثقافية، لأن مواقع التواصل الاجتماعي استطاعت توفير نفس جو التفاعل ونفس الفرجة الثقافية على عوالم الكتب وقرائها بشروط سهلة ودون تعب الانتقال الجسدي؟، أم أن الأمر مرتبط بتراجع نمط القراءة الكلاسيكي وتراجع الكتاب كمحرك للمعرفة عند الناس؟.
سحر انتشار الفضائيات التلفزيونية، والإنترنت الذي وفر بضغطة زر بسيطة ودون أن يبارح القارئ مكانه في قلب منزله آلاف المكتبات الكاملة، وملايين الكتب والمعارف، ثم تضاعف ذلك الإبهار التكنولوجي حين ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر والانستجرام والسناب شات واليوتيوب.
لم يعد معظم الناس يفكر في الانفصال ولو للحظة عن جوّاله المرتبط بشكل يكاد يكون على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم بتلك المواقع، أصبح التفاعل سهلاً ميسوراً حتى لمن لا يملكون ثقافة وقدرة على قراءة الكتب بشكل كامل وواعٍ، فقط يكفي أن تبحث عن تلخيص لكتاب ما، أو لفكرته، ثم بإمكان أي أحد أن يدخل أي مقهى افتراضي للقراءة من بين تلك المقاهي العديدة التي انتشرت على تلك المواقع، ليجد نفسه في دائرة الحدث، بل وكأنه هو صانعه.

إشكالية

لا يتعلق الأمر بالفروق بين المقاهي الافتراضية والمقاهي الثقافية الواقعية، بل يدخل في إشكالية أكبر تناولها علماء اجتماع الإعلام المعاصر، وأدرجوها في إطار التداعيات والآثار السلبية لتطور وسائل التواصل.
ويرى أولئك أنه بالقدر الذي تطورت به تلك الوسائل التواصلية، وبقدر ما تظهر أنها تخدم الاجتماعي، بقدر ما تحول الناس إلى مجموعة ذوات فردية بامتياز، لكل منها عالمها الخاص، ولا تحرص على تفعيل التواصل المجتمعي العادي، وترغب أكثر في التفاعل والتلاقي الافتراضي.
ذلك ما انسحب على المثقفين وعلى القراء من عشاق الكلمة والحرف والكتاب، فغادر معظمهم بدوره إلى تلك الجزر الافتراضية المعزولة، وصار معظم الكُتَّاب مثلاً يعرضون كتبهم على الإنترنت، وعلى التويتر أو الفيسبوك، ويلتقون بالقراء وبزملاء مهنة الكتابة هناك، وبالأصدقاء، يتبادلون الأفكار، تماماً كما يتبادلون النكات والمجاملات، ويصنعون كل ما كانوا يفعلونه إذا التقوا في المقاهي الثقافية في الماضي.
وطبعاً لا يمكن إغفال ظهور المدونات والكتب الصوتية والرقمية في تعميق الهجرة نحو أعماق المنصات والمقاهي الافتراضية التفاعلية.
ولعل البعض من هاجروا تلك الهجرة، رأى أن الحضور الثقافي الافتراضي هو الأفضل لأنه يجنبه قدراً كبيراً من النقاشات الحادة التي تنتج عن تعارض الأفكار أحياناً، ويجنبه المواجهة المباشرة مع مريدي الكتاب الآخرين، وهو في ذلك يعزز الرغبات الأنانية التي تؤثر السلامة أحياناً والبعد عن المشاكل، ولعل ذلك عزز الهجرة التي تنامت وتزايدت عن المقاهي الثقافية.
ثمة مشكلة أخرى كما يرى البعض كانت كذلك السبب في عزوف الناس عن المقهى الثقافي، تتمثل في أنه بشكل عام لم تكن تلك المقاهي ثقافية بالمعنى الاصطلاحي الدقيق، لم يكن هناك شكل مميز وخاص بتلك المقاهي يجعلها تستحق بدقة تلك الصفة، بل كانت في معظمها تكتسب تلك الصفة فقط من كونها ملتقى للمثقفين ولبعض الكُتَّاب والشغوفين بالقراءة، لذلك فهي لم تستطع الصمود أمام السيل الجارف من الأفكار الجديدة التي جاءت بها عولمة الاتصال ووسائله.

عودة

ولعل المتأمل في المقاهي الثقافية الجديدة كالراوي وحديقة الكتاب ومقهى النشر الإبداعي، يلتقط مباشرة ذلك الإحساس بأهمية نشر الوعي لدى مبدعي تلك المقاهي، وهم لم يتوقفوا عند حدود نشر الوعي، بل أرادوا أن يبدعوا كذلك في مشاريعهم، تماماً كما تبدع الشارقة ومبادراتها الثقافية، والتي تجسدها غالباً من خلال أشكال وأنماط غير تقليدية.
في منطقة المجاز في الشارقة وفي سنة 2018 تم افتتاح مقهى ثقافي يحمل اسماً، له بُعد تراثي ودلالي مرتبط بالثقافة المحلية الأصيلة هنا وهو «مقهى الراوي»، وكان واضحاً منذ البداية أن «الراوي» ليس مجرد رقم يضاف إلى أعداد المقاهي الكثيرة الأنيقة التي تطل على مجاز الشارقة، بل كان مشروعاً إبداعياً ثقافياً بمعنى الكلمة.
اعتمد المقهى على تصميم هندسي يمزج بين المكتبة وأجوائها الرصينة وبين الأناقة الهندسية والشكل الخارج عن المألوف المطلوب في المقاهي الحديثة، ويضم العديد من الأرفف التي توزعت فوقها عشرات الكتب الثقافية والأدبية، ومن بينها «منشورات القاسمي» المختصة في طباعة ونشر وتوزيع مؤلفات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، إضافة إلى مجموعة واسعة من إصدارات دار «روايات».
ورغم حداثة تأسيسه استطاع «الراوي» أن ينجح بسرعة في تحويل انتباه المثقفين والقراء والزوار العاديين إليه، فصار وجهة مفضلة للعديد من النقاشات الثقافية والفعاليات التي يقيمها بعض الكُتَّاب والروائيين والشعراء، وخصص لذلك تنظيماً خاصاً، إضافة لكونه يعتبر ملهماً للعديد من عشاق القراءة الهادئة الذين يفضلون التأمل على وقع قراءتهم في المنظر الممتد والأفق المترامي الواسع الذي يصنعه وجود الماء والبحر في نفس كل من يجلس على شاطئه.
الفكرة وراء «الراوي» لا قت نجاحاً سريعاً لأنها لم تفرض أسلوباً متكلفاً على القارئ، بل جعلته يشعر أنه يمارس تسليته الشخصية الخاصة، ويدخل رويداً رويداً وبهدوء إلى فضاء استعادة القراءة الورقية الرزينة، ويحضر مع الكتاب هو وعالمه الافتراضي الآنيّ الممثل في وجوده في مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد نجح «الراوي» في ترك انطباع جذاب في موقع تويتر، مما جعل الناس تقبل عليه لتزوره وتستمع بأجوائه في الواقع، وتتعرف عن كثب على القيمة المعرفية المتكاملة التي تمثلها القراءة وحضور الندوات والنقاشات المرتبطة بها هناك.
النموذج الآخر الذي سار على نفس طريق التميز والابتكار اتخذ لنفسه اسماً يجمع بين مكنونات جمال الطبيعة مع إظهار مكانة الكتاب وهو «حديقة الكتاب» في منطقة مويلح بالشارقة.
«حديقة الكتاب» صمم على شكل حديقة تتزين بالأشجار وألوان الأزهار المختلفة، تحوي مجموعة من الكتب المتوزعة على أرفف في المقهى، مما يجعل القراءة ضمن ذلك الإطار الجمالي متعة بصرية وذهنية، تعكس بجلاء القيم الجمالية للمعرفة.
ورغم أن المقهى أُطلق خلال العام الجاري إلا أنه هو الآخر يوفر منصة جديدة ومبتكرة للقراءة وللنقاشات الثقافيات، فهو يحوي ما يزيد على 500 كتاب من كنوز الأدب القديم والحديث، ما يجعله قادراً على خدمة عدة فئات من القراء والأدباء وطلبة الجامعات الذين بإمكانهم أن يلتقوا في أجوائه للدراسة ومطالعة مراجعهم المتوفرة، وإضافة إلى ذلك دشن المقهى منذ افتتاحه سلسلة من اللقاءات مع الأدباء والكتاب، في إطار جلسات نقاشية معهم تخدم زبائن المقهى ومرتاديه ممن يجدون أنفسهم في أجواء ثقافية مغرية بالانضمام إليها والاستفادة منها.
المبادرة الأحدث في مجال المقاهي الثقافية، هي المقهى الإبداعي للنشر، وهو مبادرة أطلقتها هيئة الشارقة للكتاب وجمعت من خلالها على مدار أيام بين المؤسسات الداعمة لمشاريع الشباب في الدولة، وبين دور النشر، وذلك من خلال جلسات حوار تفاعلية تشرح وتبين الأفكار الجديدة في مجال النشر، وتجمع في الشكل العام بين المقهى والمكتبة.
ولعل هذه الفكرة لم تتوقف عند الشكل فقط، بل طرحت كذلك أفقاً واسعاً أمام الشباب ليستثمروا في صناعة الكتاب، وليتعرفوا من خلال النقاشات التي ضمها المقهى حول النشر وإمكانياته، وفرص النجاح فيه، والأفكار الجديدة في تسويق الكتب، واجتذاب القراء وغير ذلك.
إضافة لذلك قدم المقهى الإبداعي ندوات ثقافية وجلسات شعرية وغير ذلك من ألوان الثقافة والإبداع، ليعطي الانطباع العام بأن الثقافة لا تعني الشكل العابس المتجهم وإنما هي رديف الحياة بكل ألوانها المبهجة، وإفاداتها القيمة.

مستقبل واعد

يمكن القول إن تجارب المقهى الثقافي على محدوديتها حتى الآن تعد بالكثير والكثير من النماذج المشابهة، فالشارقة الآن هي العاصمة العالمية للكتاب، والتطويرات الهائلة التي تضيفها الشارقة في كل يوم للكتاب ولصناعته ولنشره ولكسر الحواجز الافتراضية بينه وبين القارئ وإيصال كل منهما للآخر، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن مستقبل المقاهي الثقافية سيكون زاهراً، وسنكون أمام أفكار إبداعية جديدة في مجال ربط الكتاب بتفاصيل الحياة والنزهة اليومية التي تعادل في مضمونها المفاهيمي احتساء كوب قهوة أو شاي على ضفاف شاطئ، أو في مكان مبتكر ومصمم لكي يخاطب الغريزة المحبة للجمال في عقل ووجدان الإنسان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"