الصين و«دبلوماسية الكمامات»

03:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

مع بداية ظهور «كورونا» وانتشاره في مقاطعة هوبي بدت الصين كمن «يستجدي» الكمامات ومساحيق التعقيم والمعدات الطبية. في بداية فبراير الماضي أرسلت لها إيران على وجه السرعة 250 ألف كمامة كذلك فعلت اليابان وكوريا الجنوبية اللتان أرسلتا ملايين الكمامات، والاتحاد الأوروبي الذي شحن إلى الصين خمسين طناً من معدات التعقيم والكمامات وغيرها.
لكن لم يمض شهر واحد على الجائحة التي أخذت تغزو العالم بلداً تلو الآخر حتى تحولت الصين إلى مصدّر لمثل هذه المعدات التي أمست نادرة الوجود حتى في أكثر الدول الصناعية تقدماً وازدهاراً. غرقت إيطاليا في أتون الفيروس قبل أن تلتحق بها بريطانيا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا ثم الولايات المتحدة التي أضحت وكراً للوباء. سارعت الصين في نهاية فبراير إلى إرسال المعدات الطبية إلى إيطاليا، ثم راحت المعدات والكمامات الصينية تتدفق إلى ليبريا وفرنسا واليابان ونيويورك وغيرها.
وهكذا شرعت الصين في ممارسة «دبلوماسية الكمامات» بداية في القارة الآسيوية ثم باقي العالم؛ حيث قدمت الكثير من المساعدات والهبات في محاولة لتلميع صورتها بعد انطلاق الفيروس من مدينة ووهان؛ حيث أحد أهم مختبرات الأبحاث الجرثومية.
لقد أضحت للكمامة رمزية خاصة إلى درجة أن بيتر نافارو المستشار التجاري للرئيس ترامب، والمعروف بعدائه للصين، اعتبر أن الكمامة باتت رهاناً استراتيجياً في المعركة التي يخوضها إلى جانب ترامب من أجل إعادة المصانع الأمريكية التي انتقلت إلى الصين.
يلاحظ المراقبون أن وسائل الإعلام الصينية تركز، في هذه الأيام، على موضوع الكمامات التي تصنع الصين منها 1.66 مليون يومياً من نوع أن-95، إضافة إلى 110 ملايين كمامة من كل الأنواع الأخرى. في المقابل يفتقد الفرنسيون إلى الكمامات، وفي إيطاليا تسبب فقدانها بانتشار سريع للوباء، والأمر نفسه يحدث في بريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.
لقد باتت الكمامة رمز المواجهة مع الجائحة. والصين، من خلال مساعداتها وهباتها للخارج تريد البرهنة على أن «مصنع العالم» لا يزال يتمتع بقدرات إنتاجية عالية، وهو جاهز لمواجهة الخطر الذي يتهدد «المصير المشترك الواحد للإنسانية». فالصين تفاخر بأنها بعد أن تمكنت من القضاء على الجائحة في عقر دارها تسعى إلى المساهمة في مواجهتها على مستوى العالم، وبالتالي فهي قوة عظمى إنسانية ومسؤولة. فالرئيس شي جين بينج يقدم نفسه في صورة القائد الهادئ القادر في مقابل الرئيس الأمريكي ومعالجته للجائحة التي تعصف ببلاده. الرئيس الصيني يأمر بتقديم المساعدات لشعوب ودول العالم في مواجهة كورونا في حين أن الرئيس الأمريكي يفاخر بمصادرة الكمامات والأجهزة الطبية المتوجهة إلى بلدان أخرى، وذلك عملاً بمبدأ «أمريكا أولاً».
في الداخل الصيني، جاءت الجائحة كفرصة لتأكيد سلطة و«فكر شي جين بينج»؛ حيث لعبت الأيديولوجيا دوراً أساسياً من خلال التركيز على النجاح في السيطرة على الوباء في بلد المليار ونصف إنسان مقابل الفشل في الدول الرأسمالية، وهذا دليل على تفوق «النموذج الصيني». في هذا السياق نشر فرع البروباجاندا في الحزب الشيوعي الصيني كتاباً بعنوان «القوة العظمى تحارب الجائحة» وقامت وسائل الإعلام الرسمية بالترويج والدعاية له. وقد أعلن الرئيس شي في 23 فبراير أن «هذه الأزمة كشفت مجدداً عن الحسنات الفائقة للنظام الاشتراكي ذي الخصائص الصينية».
لكن في المقابل استفزت هذه البروباجاندا كثيرين في العالم اعتبروا بأنها تهدف إلى التعتيم على مسؤوليات الصين في انتشار الجائحة عبر نشر المعلومات المضللة حول مصدر الفيروس وعدد المصابين والمتوفين. فقد انضم الاتحاد الأوروبي إلى الرئيس ترامب في حملته على «الفيروس الصيني» والتي وصلت إلى حد التلويح باتخاذ إجراءات عقابية؛ إذ قال الرئيس الفرنسي ماكرون في مقابلة مع الفايننشال تايمز: «يبدو أن أشياء حدثت لا نعرف عنها شيئاً» وذلك في معرض تشكيكه بالمعلومات الصينية، كذلك لندن حذرت بكين بأن عليها الإجابة عن «أسئلة صعبة» حول انتشار الجائحة. وقد جمدت واشنطن مساهمتها المالية في المنظمة العالمية للصحة متهمة إياها بالانحياز إلى الصين. وقال مسؤولون في الاتحاد الأوروبي بأن الاتحاد سوف يراقب عن كثب الاستثمارات الصينية في أوروبا ويسعى إلى إعادة مصانع أوروبية للأدوية من الصين.
وهكذا يصعب القول إن «دبلوماسية الكمامات» نجحت في تحقيق أهدافها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"