أمريكا المتشبثة بعالمها القديم

04:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

بعد «كورونا» سيصبح النظام الليبرالي العالمي أقل ليبرالية ولن يكون عالمياً على ضوء ظهور قوى كبرى دولية وإقليمية جديدة.

يدرك القادة الأمريكيون مثل غيرهم أن العالم على أعتاب عصر جديد تتشكل ملامحه تدريجياً منذ سنوات ولم يعد من الصعب رصدها؛ ولذلك ليس صحيحاً أن وباء «كورونا» هو ما سينشئ الواقع العالمي الجديد؛ لكنه سيسهم في صنعه ويعجل من اكتمال ملامحه. ومثل كل ولادة لابد أن يكون المخاض مؤلماً، وقد تكفلت الجائحة بتوزيع الآلام على الجميع فلم تستثن غنياً أو فقيراً ولا قوياً أو ضعيفاً.

والمؤكد أن الأمريكيين هم الأكثر قلقاً بشأن العالم الجديد الذي يتشكل حولهم بغير إرادتهم. وقد لا يكتب لهم في النهاية مواصلة قيادته منفردين كما فعلوا منذ نهاية الحرب الباردة.

غير أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ظلت تقترف خطأ فادحاً بإصرارها على تجاهل المتغيرات العالمية، والتمسك بأدوات دبلوماسية وعسكرية بآلية للتعامل مع الأزمات الدولية وإدارة علاقاتها الخارجية، وبقيت تصم آذانها عن دعوات الخبراء لبلورة استراتيجية جديدة للقيادة العالمية.

كانت واشنطن بحاجة إلى أزمة عاتية بحجم جائحة «كورونا»؛ لكي تعترف بالحقيقة التي تعامت عنها طويلاً وهي أن زعامتها تتآكل ونفوذها ينكمش بينما يترنح النظام العالمي أحادي القيادة مفسحاً الطريق لبزوغ آخر متعدد الأقطاب. وهكذا جاءت «كورونا» في التوقيت الحاسم؛ لكي تنفذ حكم الزمن والتاريخ.

أزمة المسار والمصير التي تواجهها أمريكا حالياً ليست نتيجة لتغير العالم فقط؛ ولكنها أيضاً محصلة لقصور رؤية قادتها على مدى ثلاثة عقود. وقد سجل ذلك بكثير من الصراحة والقسوة على النفس أحد كوادر مؤسسة السياسة الخارجية ممن ساهموا في إدارتها وشاركوا في ارتكاب الأخطاء على حد وصفه وهو الدبلوماسي المخضرم وليام بيرنز الذي عمل وكيلاً لوزارة الخارجية في عدة إدارات.

قبل أن يقدم اعترافاته التي نشرتها مجلة اطلانتك الأسبوع الماضي بعنوان: «الاختبار.. الدبلوماسية الأمريكية تكون أو لا تكون»، يؤكد بيرنز أن لحظة الحساب التي تهربت منها واشنطن طويلاً قد حانت الآن، وعليها أن تتحمل ثمن أخطائها وتسارع بإصلاحها من خلال تبني استراتيجية جديدة لإدارة سياستها الخارجية بشرط أن تنظر للعالم كما هو وليس كما تريده.

بعد كورونا سيصبح النظام الليبرالي العالمي أقل ليبرالية وأقل نظاماً ولن يكون عالمياً على ضوء ظهور قوى كبرى دولية وإقليمية جديدة. وستكون حركة الأفراد والبضائع أقل حرية، وستزداد المنافسة بين القوى الكبرى وبالتالي تتفشى الفوضى لاسيما في مناطق تعصف بها الحروب والصراعات. ومع انتشار التكنولوجيا المتطورة ستحكم النظم السلطوية قبضتها على شعوبها. ولن تصبح المنظمات الدولية بنفس فاعليتها؛ بسبب نقص الموارد والتناحر بين أعضائها الكبار.

لكن ماذا عن أمريكا؟ لكي يجيب بيرنز يضطر للعودة إلى عام 1993 عندما كان رئيساً لهيئة التخطيط في الخارجية، وقتها قدم مذكرة للرئيس المنتخب تواً بيل كلينتون حذر فيها من تراجع الدور الأمريكي في العالم، وأنه سيأتي يوم تترحم فيه بلاده على النظام الذي ظل قائماً خلال الحرب الباردة، وتشعر بالحنين إليه، فلن يصير لدورها القيادي المتفرد وجود في المستقبل.

الخطأ الأفدح في رأيه هو حالة العجرفة والغرور التي استولت على مشاعر وسلوك القادة الأمريكيين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومبالغتهم في الزهو بما اعتبروه انتصار نهاية التاريخ. ومن ثم تضخم إحساسهم بالقوة والنفوذ، وحلقت طموحاتهم في ذرى خيالية أعمت بصيرتهم عن واقع عالمي جديد ظل ينمو ويتشكل ببطء.

وهكذا أسرف القادة في استخدام القوة وتجاهلوا الدبلوماسية. ومع فشلهم في الخارج بدأت فجوة الثقة مع مواطنيهم تتسع، فلم يعد من السهل إقناعهم بالزيادات الفلكية في أرقام الإنفاق العسكري بعد زوال الاتحاد السوفييتي. حتى حرب الإرهاب فقدت فاعليتها كسلاح لتخويف الأمريكيين لقبول مزيد من التضحيات وتبرير الحروب الخارجية.

وقد يكون الرئيس دونالد ترامب وبسبب سياسته التصادمية قد فاقم المشكلة إلا أنه لم يصنعها وليس مسؤولاً عن مأزق المستقبل الغامض للزعامة الأمريكية للعالم. المشكلة بدأت قبله بسنوات. وربما تضل أمريكا الطريق بعده لسنوات أخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"