«كورونا» يغير أمريكا

02:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاطف الغمري

محنة فيروس كورونا دفعت الساخطين على أوضاعهم الاجتماعية، للمطالبة بتغيير أوضاع كانوا متقبلين لها دون اقتناع.

الأحداث الراهنة، والتي لم تكن متوقعة، تهز الأنماط التقليدية في التحليل السياسي، وتجعل من الصعب الفصل بين ما كان قد جرى من انتخاب ترامب رئيساً، على الرغم من عدم انتمائه أصلاً إلى الحزب الجمهوري، وبين الاحتمالات المتوقعة، بشأن تغيير عناصر حاكمة في النظام السياسي الأمريكي، والمستقرة لمئات السنين.

كان صعود ترامب، على الرغم من خروجه على قواعد ثابتة في النظام السياسي، مدفوعاً بأصوات تعبر عن تمرد قطاع من الشعب الأمريكي، ظل طوال ثلاثين عاماً في حالة تململ شبه صامت، إلى أن تحول في نهاية هذه المدة إلى تمرد، من الذين صوتوا لترامب والذين وصفهم كبار المفكرين الأمريكيين ب «ائتلاف الغاضبين والمحبطين».

ولما كانت الولايات المتحدة، دولة يحرص نظامها السياسي، على المحافظة على مصالح الطبقة الأكثر ثراء، فإن محنة فيروس كورونا قد دفعت الساخطين على أوضاعهم الاجتماعية، للمطالبة بتغيير أوضاع كانوا متقبلين لها دون اقتناع، تمشياً مع عُرْف سائد بينهم، كانوا يترجمونه في جلساتهم العادية أو في استطلاعات الرأي بكلمات محددة هي: «هذه هي أمريكا»، أي أن هذا هو نظامها، ولا سبيل إلى تغييره.

ولعلي أتذكر استطلاعات للرأي في منتصف التسعينات عندما كنت مراسلاً في واشنطن لسنوات، وكان يحوي سؤالاً محدداً يقول: «هل لك كمواطن أمريكي نفوذ على صناعة القرار داخلياً وخارجيا؟»، وكانت الإجابة بأغلبية كبيرة هي «لا.. ليس لنا أي نفوذ، لكن أصحاب النفوذ من قوى الضغط وجماعات المصالح، هم المؤثرون في صناعة القرار».

أتوقف هنا أمام ظاهرتين في التاريخ الأمريكي الحديث، ففي فترة الحرب الباردة كان للمواطنين الأمريكيين من الطبقات الوسطى والفقيرة، مطالب تحتاج إلى ميزانية لحل مشاكل اجتماعية ملحة، وعندما انتهت الحرب الباردة، تصاعدت لدرجة اقتناع بأن السلام قد حل في العالم، ولا بد من أن تحقق لهم الدولة ما أسموه «Reace Dividend»، أي ثمار السلام، لكن صانع القرار اتجه إلى زيادة ميزانية التسلح ، استجابة لمصلحة أطراف تحالف المؤسسة الصناعية العسكرية، وميل السياسات إلى محاباة الطبقة الأكثر ثراء، وهو ما عبرت عنه تقارير تفصيلية نشرتها الصحف الأمريكية تتحدث عن زيادة انعدام المساواة Inequality بين الأمريكيين.

الظاهرة الثانية، ما تضمنته سجلات رسمية من أن هناك 46 مليون أمريكي لا يتمتعون بنظام التأمين الصحي، وهو ما يحرمهم من فرص العلاج في المستشفيات، أو تحمل أسعار الدواء، وعلى الرغم من محاولات مد مظلة التأمين الصحي ، فإن الاعتبارات السياسية للمؤسسات المؤثرة في صناعة القرار، أفشلت كل هذه المحاولات.

ثم جاءت أزمة فيروس «كورونا»، وبدأت في أجوائها ضغوط اجتماعية لحماية الأمريكيين من أي كوارث بشرية مستقبلية، وضمن هذه الضغوط استطلاع جرى في منتصف مارس الماضي، طالب 40% من المشاركين فيه بنظام للتأمين الصحي الشامل، بينما المعارضون لا يتجاوزون 20%.

وتمشياً مع هذه الاتجاهات، كان ما جاء في الدراسة التي صدرت عن مركز الدراسات الاستراتيجية بكلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز، من توقعات - بعد تراجع حدة أزمة كورونا بإجراء تغييرات ضخمة في السياسات، لم يكن أحد يتصورها منذ شهور مضت، وإن حقائق جديدة تنجم عن تداعيات «كورونا» سياسية، واقتصادية، واجتماعية، ستتطلب تغييرات تشمل خفض الميزانية العسكرية، لتوفير مصادر تلبي احتياجات داخلية عاجلة.

ولعل أكثر القطاعات المتضررة هي النشاط الاقتصادي، الذي يعد عصب الحياة لبنية الدولة الأمريكية، وخاصة أن خبراء الاقتصاد لا يتوقعون عودة كاملة للاقتصاد بالشكل الذي كان عليه قبل الأزمة الناتجة عن انتشار الفيروس، وما تسببت به من تداعيات في المجالات كافة، وبخاصة الاقتصاد.

في إطار صورة الأوضاع الداخلية، فإن الكثيرين من الضالعين في صناعة القرار ممن عملوا مع عدد من الرؤساء السابقين، يرون أن المفاهيم القديمة للفكر السياسي والاستراتيجي كانت خاطئة، لأنها تباعدت، خاصة في السنوات الأخيرة، في تقدير قيمة وتزايد المطالب الاجتماعية، وأن طبيعة الأزمة الراهنة، تفرض على النظام السياسي، إعادة ترتيب أولوياته، بشكل قد يختلف في كثير من جوانبه عما كان من قبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"