حرية التنقل في عالم الأزمات

02:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

الأزمة الصحية العالمية الناجمة عن الجائحة كان لها وسيكون لها أيضاً في المستقبل القريب تأثيراً سلبياً على حركة النقل الجوي وعلى حرية تنقل الأشخاص وعلى شركات الطيران

أعادت الأزمة الصحية العالمية النظر في العديد من المُسلّمات الدولية التي تبلورت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبحت من البدهيات المتعارف عليها في حياة الدول والمجتمعات المعاصرة مع بداية العولمة؛ مثل: حرية التنقل والسفر، ويؤكد جوسيب بوريل أن هذه الجائحة الطارئة تطرح أسئلة أساسية حول الشكل الحالي للعولمة، وحول الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة التي رافقت هذه العولمة. كما تطرح الجائحة أسئلة جدية فيما يتعلق بالحوكمة العالمية المعطّلة، التي أضحت متجاوزة؛ بسبب الأنانية القومية، وتوجهات الانغلاق والنزعة الحمائية للدول، الأمر الذي يطرح تحديات صعبة على القوى الكبرى؛ مثل: الولايات المتحدة والصين وروسيا ودول غرب أوروبا، وبخاصة وأننا بتنا نعيش مباشرة في زمن ما بعد الجائحة من دون أن يكون لدينا أي امتياز للمرور بمرحلة انتقالية.

لقد أدت الفوضى الناجمة عن تفشي الجائحة إلى إحداث انقلاب شبه كامل في سلوكات الأفراد والمجتمعات، لاسيما بعد أن لجأت الدول الوطنية إلى غلق حدودها وسمائها في وجه حركة السير والطيران، ووجد قسم كبير من الناس أنفسهم محاصرين ومعزولين عن أوطانهم وبيوتهم وعائلاتهم، تائهين في مطارات مدن وعواصم بعيدة؛ بعد أن أغلقت فجأة فضاءات العولمة بكل ما ترمز إليه من حرية في تنقل الأشخاص والبضائع، وعادت الدول القومية إلى ممارسة أكثر مبادئ السيادة تشدّداً.

ويؤكد الباحث ريموند وويسنر في كتابه الصادر في يونيو/حزيران 2020 والموسوم: «أزمة النقل الجوي، نحو كوكب آخر؟»، أن التحولات الناجمة عن هذه الجائحة، تشير إلى نهاية مرحلة امتدت من نهاية الأربعينات من القرن الماضي إلى غاية سنة 2020، وهي مرحلة وعلى الرغم من فترات المد والجزر التي عرفتها، فإنها تميّزت بحقبة طويلة من النمو في مجال الطيران المدني؛ حيث استطاعت أن تغيّر بشكل حاسم كل العالم، وكل مفاهيمنا المتعلقة بالنقل الجوي، وكل العادات المرتبطة بحركة تنقل الأشخاص والبضائع، الأمر الذي مكّن الشعوب من الانتقال من نقل جوي خاص ببعض النخب إلى نقل جوي جماهيري متاح لكل الأفراد.

وقد انطلق النقل الجوي الجماهيري بداية من سنة 1944 مع تأسيس المنظمة الدولية للطيران المدني؛ وهي منظمة مستقلة عن الأمم المتحدة، وتكمن مهمتها في بلورة المعايير التي تنظم النقل الجوي العالمي؛ بناءً على بنود اتفاقية شيكاغو؛ وذلك بهدف تنظيم وضمان حرية التحليق في الأجواء على المستوى الدولي؛ ثم تأسست في سنة 1945 الجمعية الدولية للنقل الجوي في هافانا؛ وهي تمثل مصالح شركات الطيران عبر العالم، ويوجد مقر المنظمتين الدوليتين في مونتريال بمقاطعة الكبيك في كندا.

ومرت حركة تطور الطيران المدني خلال ال70 سنة الماضية بثلاث محطات رئيسية؛ بدأت من أمريكا مهد صناعة الطيران في العالم وانتقلت إلى أوروبا مع إنشاء شركات الطيران الكبرى وشركة إيرباص الأوروبية، ووصلت إلى أقصى شرق آسيا مع التطورات الاقتصادية الهائلة التي عرفتها دول هذه المنطقة، وبخاصة الصين التي تحوّلت مع مرور الزمن إلى مصنع العالم؛ ومع ازدهار حركة الطيران عبر العالم، لجأت شركات الطيران العالمي إلى الاندماج فيما بينها؛ لتشكيل كارتيلات كبرى تتيح لها قدرة أكبر على منافسة الشركات التي تعتمد أسعاراً رخيصة؛ كما ظهرت في هذا السياق التنافسي شركات جديدة استطاعت أن تحقق شهرة فاقت كل التصورات مثل: شركة طيران الإمارات، التي استطاعت أن تتيح لزبائنها التنقل بسهولة عبر مجموع دول القارات الخمس.

وعليه فإنه وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية والصحية وحتى الأمنية التي عرفها العالم منذ بداية الألفية الجديدة، والتي كانت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 أبرز محطاتها، وعلى الرغم أيضاً من المواجهة الاقتصادية المتصاعدة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين التي بدأت تأخذ أبعاداً مقلقة مع اعتماد إدارة الرئيس ترامب سياسة حمائية؛ تهدف إلى التخلي عن مبادئ العولمة الاقتصادية؛ فإن الأزمة الصحية العالمية الناجمة عن الجائحة كان لها وسيكون لها أيضاً في المستقبل القريب تأثيراً سلبياً على حركة النقل الجوي، وعلى حرية تنقل الأشخاص وعلى شركات الطيران وأيضاً على صناعة السياحة في العالم، ومن المستبعد في أعين الملاحظين أن تعود حركة النقل الدولي إلى سابق عهدها حتى في حال انحسار الوباء خلال الأشهر القادمة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"