«كورونا».. والتدخل الإنساني

04:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاطف الغمري

النتائج القاسية المتوقعة لأزمة كورونا، ستفرض على القوى الكبرى التي تؤيد التدخل الإنساني واقعاً جديداً رغماً عنها، حتى ولو كانت لا تصدق ذلك.

كشفت محنة كورونا الغطاء عن سقوط صلاحية المبدأ الذي تمسكت به قوى كبرى تحت مسمى التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لأسباب إنسانية، والذي اتسعت دائرة استخدامه وصولاً إلى إسقاط الدولة الوطنية. وظهور أن انكباب كل دولة على ذاتها على ضوء الضربات التي وجهتها كورونا إليها، وضع أمام العالم معنى أن تكون الدولة الوطنية في كامل عافيتها، وهي تستغني عن تدخلات الآخرين في شؤونها.

وأذكر حين كنت أنتقل من واشنطن في سبتمبر/أيلول 1995، إلى نيويورك لأتابع عملي كمراسل في الأمم المتحدة، أن شهدت هذه الدورة - وأنا أتنقل بين أروقتها المشحونة بالآراء والمناقشات الساخنة - وجود قوى دولية تحاول أن تحشد وراءها أنصاراً من الدول الصغيرة، لطرح مشروع لتتبناه الأمم المتحدة، يجعل مبدأ التدخل الإنساني في الدول الأخرى، قاعدة دولية معترفاً بها.

وقتها كان عمرو موسى وزيراً للخارجية، وراح يتنقل ما بين جلسات المناقشات، معلناً رفض مصر لهذا المبدأ، ونجح في جذب عدد كبير من الوفود للوقوف وراء دعوته. في تلك الفترة من التسعينات كانت التدخلات تحت دعوى الإنسانية، تجري على قدم وساق، في الصومال، وسيراليون، والعراق (في مناطق حظر الطيران)، كوسوفو، والبوسنة، وصولاً إلى حرب العراق عام 2003، والتي صنفها الداعمون لها، وكأنها تدخل إنساني. لكن ظل هذا المبدأ موضع انتقادات شديدة لما يقوم به أصحابه من خلق مناخ لتدخلات لصالح استراتيجيات القوى التي تروّج له، ومن أجل فرض قيمها الثقافية، والاقتصادية، على الدول المستهدفة.

ومن وجهة النظر القانونية، فقد كان مبدأ التدخل، يمثل خروجاً على مبدأ سيادة الدولة على أراضيها، والذي يحرّم التدخل. وإذا كان أنصار التدخل يصنفونه على أنه مسؤولية إنسانية، تبيح التدخل لإنقاذ أرواح البشر، من كوارث جماعية. فإن التطبيق العملي لهذا المبدأ في سوريا، وليبيا - على سبيل المثال - كان البرهان القاطع على أن أرواح البشر التي ضاعت في كوارث جماعية، كانت من نتاج مبدأ التدخل. ولعل اكتساب مبدأ التدخل قوة دفعه الأساسية، قد جرى في فترة الحرب الباردة، كجزء رئيسي من الصراع الأمريكي السوفييتي.

وبعد انتهاء الحرب الباردة، والدخول المؤقت فترة اعتبار الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، فقد اكتسب هذا المبدأ قوة دفع كبيرة، ربطت التدخل بتحقيق خطط سبق إعلانها من جانب مبادئ الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، والتي عرفت بإعادة رسم حدود المنطقة، وتغيير الأنظمة. ولوحظ ذلك منذ إعلان الرئيس جورج بوش في عام 2002، عن الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي، وإعلانه وقتها أن الشأن الداخلي في دول المنطقة العربية، لم يعد شأناً داخلياً، طالما أنه يمس الأمن القومي الأمريكي - وهذا من وجهة نظره بالطبع.

وفي أعقاب ذلك، عاشت المنطقة التجارب القاسية، للتطبيق العملي لتلك النظرية، ممثلاً في الفوضى الخلاقة، والحروب بالوكالة، ومساعي إشعال النزاعات الطائفية والعرقية، والتي طبقت بكثافة في العراق.

ومن النماذج الأخرى أيضاً، تجربة ليبيا، حين جرى تنفيذ التدخل الذي قاده أولاً حلف الأطلسي، والذي أسفر عن تمزيق الدولة، وتفتيتها، ونشر الفوضى المدمرة في ربوعها.

وما جرى في هذين النموذجين - وفي غيرهما - كان توسيعاً لمبدأ التدخل، والذي يجر وراءه هدف إسقاط الدولة الوطنية أمام هذه التجارب - وفي ذروة معاناة العالم من وباء كورونا - وصف أنتونيو جوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة، الوباء بأنه أكبر تحد نواجهه من أزمة عالمية، منذ قيام الأمم المتحدة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ودعا جوتيريس لموقف عالمي موحد، ووقف جميع النزاعات المسلحة حتى يمكن للدول احتواء الوباء، والتركيز على التصدي للأزمة.

وكان ما يدعو إليه الأمين العام للأمم المتحدة، يصطدم بجوهر مبدأ التدخل الإنساني طبقاً لطبيعته وأهدافه وحقيقته، لأن الخلافات الدولية التي نشبت بين القوى الكبرى في ظل هذه الأزمة، تمثل إشارة صريحة على استمرار هذه القوى بعدم التنازل عن بعض أركان استراتيجيتها، وبعضهم يتغافل عن أن النتائج القاسية المتوقعة لهذه الأزمة، ستفرض عليهم واقعاً جديداً رغماً عنهم، حتى ولو كانوا لا يصدقون ذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"