بطليوس.. حاضرة العلم والأدب

من أكبر الحصون الإسلامية في أوروبا
04:00 صباحا
قراءة 4 دقائق

حملت الحضارة الإسلامية قيماً إنسانية عظيمة، ارتقت بها عن مثيلتها من الحضارات المعاصرة لها، فلم يكن دخول المسلمين للبلدان التي فتحوها للاستيلاء على خيراتها واستعمارها، بل ليكون بداية عهد جديد لنشر الهداية والطمأنينة، فالإسلام، دين وقيم وعلم، يحقق الغايات المثلى للوصول للكمال الخلقي، يقضي على الظلم ويفتح مغاليق الجهل والتأخر، ويدعو إلى ترك الاتباع الأعمى والبعد عن العصبية والقبلية.

هذه القيم السامية سعى إليها المسلمون عندما فتحوا المدن والأمصار، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينهَى أصحابه عن قتل النساء والشيوخ والأطفال، ويمنعهم من إتلاف الزرع وإهلاك المواشي وتخريب البلدان. إن الأصل في الفتح هو الحفاظ على السلم والأمن ونشر دين الله الحنيف، يقول ربعي بن عامر، مبعوث سعد بن أبى وقاص إلى رستم قائد الفرس في موقعة القادسية: «إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم». ولم يكن الفاتح العربي هادماً ولا مدمراً، بل معمر وبناء ومضيف، فعمل على إعادة بناء المدن المفتوحة لتحمل طابعاً حضارياً وإنسانياً، فتنتشر بها معاهد العلوم الدينية والدنيوية، تمهد الطريق للرقي لأهل هذه البلدان، وهو ما يظهر في إعادة تخطيط وإعمار المدن الإسلامية العديدة، في العراق والشام ومصر وإفريقيا والأندلس، وولادة مدن جديدة تخرج من رحم حضارة البناء والتعمير.

تعد مملكة بطليوس من أكبر الحصون الإسلامية في أوروبا جميعها بنيت في عهد القائد عبدالرحمن بن مروان في القرن التاسع، وتم توسيعها في العهد الموحدي عهد أبو يعقوب يوسف المنصور سنة 1169م، وكانت تضم بداخلها ثلاثة مساجد فضلاً عن الدور والحمايات العسكرية. ففي الثغر الأدنى من بلاد الأندلس تكونت المملكة، ويذكر د.راغب السرجاني في «بنو الأفطس في بطليوس» أن هذه المملكة تُمَثِّل بُعْداً مهماً في الصراع بين ملوك الطوائف، نظراً لأهميتها الجغرافية الخاصة؛ فهي من ناحية تقع في الشمال من مملكة إِشْبِيلِية، ولا يفصل بينهما إلا سلسلة جبال الشارات أو سييرا مورينا، ومن ناحية أخرى فهي تشمل رقعة واسعة تمتد من غرب مملكة طُلَيْطِلَة عند مثلث وادي يانة، وغرباً حتى المحيط الأطلسي.

وتقول وفاء محمد سحاب في «تاريخ أخطاط العرب المسلمين للمدن في الأندلس» إن بطليوس، مدينة إسلامية محدثة أمر ببنائها الأمير عبدالله بن محمد، إذ أعطى الإذن بالبناء لعبدالرحمن بن مروان المعروف بالجليقي، فأنفذ له جملة من البناة وصرف له الأموال، فشرع بداية في بناء الجامع باللبن والطابية وبنى صومعته بالحجر، واتخذ مقصورة وبنى مسجداً خاصاً بداخل الحصن الذي اتخذه موطناً. وبني سور مدينة بطليوس بالتراب.

وظهرت مملكة بطليوس وأحدثت تغييراً فعلياً في عصر الطوائف على يد بني مسلمة، أو بني الأفطس على ما هو مشهور في كُتب التاريخ الأندلسي، فقد كانوا سادتها نيفًا وسبعين سنة.

العلماء والشعراء

في ظلِّ بني الأفطس كانت بطليوس حاضرة من حواضر العلم والأدب والفقه في فترة ملوك الطوائف، وكان يتسابق إليها العلماء والشعراء؛ ينهلون من عطايا ملوكها، وخاصة المظفر والمتوكل، واعتنى بنو الأفطس بالأدب والشعر خاصة، ولعلَّ أشهر شعرائهم الوزير الشاعر الأديب ابن عبدون، الذي يُعَدُّ من أشهر وزراء الطوائف وشعرائهم، ورثا دولتهم بكلمات اشتملت على كل مَلِك قُتل، وأشار إلى مَنْ غُدر منهم وخُتِلَ، كما أنه نبغ في بلاط بَطَلْيُوس العديد من الفقهاء والعلماء الأجلاَّء، الذين قالوا الحقَّ وجهروا به، وسَعَوْا في درء الصدع والفتنة والصلح بين ملوك الطوائف، ويأتي على رأسهم أبو الوليد الباجي، والعالم الفقيه ابن عبد البر المالكي القرطبي الأصل، وغيرهم كثير، فضلاً عن أن المظفر بن الأفطس كان من كبار أدباء عصره، ويكفي أنه صاحب كتاب المظفر الذي عدَّه ابن حزم من مفاخر الأندلس، كما كان ابنه المتوكل بن الأفطس أديبًا شاعرًا عالمًا، وكانت مدينة بَطَلْيُوس في مُدَّته دار أدب وشعر، ونحوٍ وعلمٍ.

المحدثون والأدباء

كانت بطليوس مركزاً للعديد من العلماء والمحدثين والأدباء والشعراء، ومنهم أبوالوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث، الأندلسي الباجِيُّ، وأصله من بَطَلْيُوس ومولده في بَاجَة، ارتحل في طلب العلم والفقه بين الحجاز وبغداد ودمشق والموصل وأصبهان، فأخذ علم الحديث والفقه والكلام، ثم عاد إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم غزير، حَصَّله مع الفقر والتقنُّع باليسير، ثم ولي القضاء، وحدَّث عنه ابن عبدالبر وابن حزم والحميدي والطرطوشي وابنه أبوالقاسم بن سليمان، وأجمع العلماء على أنه أحد أئمة المسلمين في المشرق والمغرب، وكان أبوالوليد الباجي من المقرَّبين إلى المتوكل بن الأفطس ينصحه ويُذَكِّره، كما أنه كان من العلماء العاملين، الذين يحملون هموم دعوتهم ودينهم، وكانت تشغله دائمًا أحوال الأندلس والتفرُّق والتنازع بين ملوك الطوائف واستقوائهم بالنصارى، وكان ألفونسو السادس شدَّد غاراته على أراضي المسلمين، وأثقل أمراءهم بالجزية، بل إنه لم يقنع بها، فلما رأى الباجي ذلك أعدَّ عُدَّته من الإيمان، وشحذ همَّته لقول الحقِّ لهؤلاء الأمراء، وأجهد نفسه في دعوة ملوك الطوائف إلى الاتحاد ونبذ الفُرقة والتشاحن، ولكن لم يُصْغ أحد إلى دعوته، وحَسْبُه أنه أعذر إلى ربه، ومات ولم يَرَ حُلْمَه في اجتماع كلمة المسلمين. وخلف الباجي كتبًا كثيرة؛ منها «المنتقى»، «إحكام الفصول في أحكام الأصول»، و«التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح».. وغير ذلك.

وهناك أيضا أبوعمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النمري القرطبي المالكي، الإمام العلامة، حافظ المغرب، ولد بقُرْطُبَة وبها تعلَّم على يد كبار رجالها وفقهائها، قال عنه الإمام أبوالوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبدالبر في الحديث. وقال عنه أيضاً: أبوعمر أحفظ أهل المغرب. فارق ابن عبدالبر قرطبة، وجال في غرب الأندلس مدةً، ثم تحوَّل إلى شرق الأندلس، وله رحلات كثيرة فيها، واستقرَّ به الأمر في بطليوس غرب الأندلس، فتولَّى قضاء لَشْبُونَة وشَنْتَرِين للمظفر بن الأفطس، ثم رحل إلى شاطبة وبها تُوُفِّيَ. ومن كتبه «الدرر في اختصار المغازي والسير»،،«العقل والعقلاء»، «الاستيعاب»، «بهجة المجالس وأنس المجالس»، و«التمهيد».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"